سنة مضت على السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وعملية «طوفان الأقصى»، سنة شدت أنظار العالم إلى أصغر بقعة أرضية يدور فوقها رحى حرب ضروس، قاتلة، مدمرة، لم يكن أحد يتوقعها، وخاصة «الموساد» جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الذي فشل في رصدها، سنة مضت بدلت الكثير من المفاهيم، وأفرزت حقائق دامغة لم نكن نحسب أنها ممكنة.
فئة قليلة من المقاومة بأسلحة فردية تقف في وجه أعتى آلة حرب في الشرق الأوسط، وعصية على كل من يحميها ويسلحها ويمولها.
آلة القتل الإسرائيلية لاتزال تدور رحاها ومطلوب منها قتل أهل غزة بنسائهم وأطفالهم وشبابهم وشيوخهم، هي إبادة جماعية «بالتقسيط»، والمقاومة لا تزال صامدة وتكبدها خسائر في العتاد والأرواح، لا شيء تغير مع مرور الأيام سوى توسيع رقعة الحرب إلى لبنان، بعد اغتيال قادة حزب الله. وربما اتسعت لتشمل المنطقة بأكملها.
الشرق الأوسط الجديد
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المنتشي بنجاح عمليات اغتيالاته المتعددة في غزة ولبنان وسوريا، وحتى إيران، أظهر جليا أن دولته تقوم منذ نشأتها على الاغتيال السياسي لكل مقاوم لها عسكريا، وسياسيا، وحتى أدبيا (اغتيال غسان كنفاني مثالا)، فعمليات الاغتيال التي قامت بها يصعب إحصاؤها، خاصة من القيادات الفلسطينية بجميع أطيافها.
هذه عقيدة راسخة في رؤوس من يحكم دولة الاحتلال. لكن ما اختلف اليوم بالنسبة لها، ورغم كل الاغتيالات السياسية التي قامت بها، أنها لم توصلها إلى مبتغاها بطمس القضية الفلسطينية، وإنهاء هذه الحرب بانتصار «مبين».
بنيامين نتنياهو الهارب إلى الأمام من جرائمه الداخلية، التي سيحاكم عليها عاجلا أم آجلا، على حساب المحتجزين في سراديب المقاومة، صعد إلى منبر الأمم المتحدة وفي يده خرائط تحكي حكاية تدور في رؤوس الصهاينة منذ أن وطئت أقدامهم هذه الأرض المقدسة ضمن استراتيجية طويلة النفس معتمدين على القوى الامبريالية الأمريكية التي تشاركهم طموحاتهم، وتطلعاتهم، ومخططاتهم.
جورج بوش الابن قال بالفم الملآن، وكررته وزيرة الخارجية كونداليزا رايس مرارا ببناء «الشرق الأوسط الكبير»، وهو، أي نتنياهو قال بكل ثقة وعنجهية إنه يريد «تغيير الشرق الأوسط» (نلاحظ هنا أن تجمعا من الشتات اليهودي الإشكينازي في أوروبا وعده بلفور بوطن قومي في فلسطين رأفة بهم من الاضطهاد الأوربي، قاموا فور وصولهم إلى فلسطين بتشكيل عصابات مسلحة إرهابية تقتل أصحاب الأرض الذين استقبلوهم للاستيلاء على أراضيهم، ودأبوا على توسيع رقعة الأرض بالحروب والمجازر حتى احتلوا كل فلسطين، واليوم يريدون تغيير الشرق الأوسط وتوسيع مساحة دولة الاحتلال) فهي صغيرة كما قال الصهيوني دونالد ترامب ويريد إذا عاد إلى الحكم توسيعها (وكأن أراضي العرب ورثها عن أبيه). أي أن خطر الصهيونية لا يقتصر على فلسطين بل سيداهم كل دول المنطقة.
ترسيم الحدود
رفضت إسرائيل كل الاقتراحات التي قدمت لها من قبل الجامعة العربية والسعودية بضمان أمنها مقابل دولة فلسطينية لكن رفضتها جميعا لأنها لا ترغب في ترسيم حدودها، فالشرق الأوسط الجديد حسب نتنياهو يمر عبر ممر داوود الذي يسلك طريق الجولان المحتل، ولبنان ويستمر داخل سوريا لغاية المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد المدعومون من أمريكا التي لديها قاعدة وقوات هناك، ويتمدد شرقا وجنوبا بقدر المستطاع ليشمل نصف العراق والأردن وشمال السعودية وشرق مصر.
في خرائط نتنياهو حكايات أخرى فقد أظهرت أنه مسح منها جغرافيا فلسطين كاملا، وبمفهوم سياسي يقول نتنياهو جهارا نهارا إن لا دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وهذا يعني إبادة جماعية للتخلص من فلسطينيي غزة، وطرد فلسطينيي الداخل (عرب 48)، وترانسفير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن.
أما الخريطتان اللتان عرضهما على قلة من الحاضرين في قاعة الجمعية العامة بعد أن انسحبت معظم الوفود احتجاجا لإعطائه الفرصة ليصعد على هذا المنبر الأممي، ففيهما تصنيف جديد للدول العربية حسب وصفه: فهناك الدول الجيدة «دول الخير» وهي التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، والدول «المارقة» دول الشر،(وهي الدول التي تناهض إسرائيل) وبذلك أضاف انقساما جديدا على الانقسامات العربية (من أنظمة ملكية وجمهورية، وأنظمة اشتراكية وليبرالية، وأنظمة موالية سابقا للاتحاد السوفييتي وأخرى لأمريكا، ودول مطبعة وأخرى خلافها، ودول مواليه لإيران، وأخرى تعاديها وهكذا) فالانقسامات لا تنتهي في البيت العربي ولا اتفاق فيما بينها يتحقق، وإن تحقق لا يدوم، إلا هذه المرة فقد اتفقت كل أنظمة العرب دون توافق مسبق وبدون استثناء على موقف واحد: الصمت المريب العجيب المعيب على مجازر غزة وتدميرها، وضرب لبنان رغم خطورة ما يجري على الساحة من حروب واغتيالات وجرائم ومجازر واحتلال.
وهذا ما جعل نتنياهو يتجرأ بكل صلافة واحتقار لكل العرب على القول إنه سيغير الشرق الأوسط والخرائط بيده وكأنه سيد المنطقة بأكملها يفعل بها ما يشاء، وليس للدول المعنية (المطبعة وخلافها) إلا أن تخضع لرغباته صامتة مرتعدة صاغرة. بمفهوم آخر هذا ما أوصلتنا إليه الأنظمة العربية التي كانت بالأمس تأخذ القضية الفلسطينية كقميص عثمان بينما لها فيها مآرب أخرى. ولا تقوى اليوم على أي شيء سوى أن تضع بلادنا جميعا في موقع المفعول فيه إعرابيا أمام الفاعل الصهيوـ أمريكي.
تحد جديد
أمام الدول العربية قاطبة خطران يحيقان بها كطرفي كماشة شرقا وغربا: إسرائيل وإيران، فلكل منهما مشروعه في الشرق الأوسط: «القوس الشيعي» مقابل «القوس الصهيوـ أمريكي» وكلا المشروعين على حساب دول وشعوب المنطقة. فأي تغيير في الشرق الأوسط حسب معايير الصهيونية العالمية (والقصد كل الدول المساندة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة لأنها كلها متورطة في هذا المشروع ولا يمكن لإسرائيل أن تتحدث عنه دون أن يكون هناك اتفاق مسبق مع واشنطن على أقل تقدير، ومشاركة أو صمت الدول الأوروبية) سيدخل الشرق الأوسط في حروب لا تقتصر على الفلسطينيين المدافعين عن أرضهم ووجودهم، وشرف الأمة بأكملها هذه المرة، بل كل دول المنطقة، وخاصة دول محور إيران، وربما اتسعت أكثر إلى مصر والخليج العربي.
فالدول التي تعتقد أن بتطبيعها مع إسرائيل ستكون بمنأى عن الإعصار الصهيوـ أمريكي ومشروعه مخطئة، فإيران قالتها وهددت أنها ستضرب كل الدول الداعمة لإسرائيل وهذه الأخيرة ستضرب كل من يقف حجر عثرة في مشروعها، وخاصة «رأس الشر» إيران حسب وصفها، وستقوم بالرد على الهجوم الإيراني بهجوم مضاد عنيف كانت تنتظره منذ زمن فهي المهدد الوحيد لها إذا ما امتلكت سلاحا نوويا. وإذا دخلت أمريكا الحرب المحتملة فيما لو اندلعت لحماية دولة الاحتلال فإنه من المرجح أن تستعمل قواعدها في الخليج، وإذا ضربت إسرائيل المفاعلات النووية، أو المنشآت النفطية الأكثر ترجيحا فإن إيران وبكل تأكيد ستوجه صواريخها للقواعد الأمريكية، والمنشآت النفطية الخليجية، وتستنفر كل ميليشياتها في العراق وسوريا للانخراط في المعركة وسيشتعل الشرق الأوسط بأكمله وسيجر معه دولا أخرى تكون فاتحة الحرب العالمية الثالثة كما تنبأ بها الروسي فلاديمير جيرونوفسكي قبل وفاته في العام 2020. وهنا يطرح السؤال نفسه: إلى متى ستدفع شعوب المنطقة ثمن خطط الإمبريالية الصهيونية ومشاريعها الاستعمارية الجديدة، والمشاريع الإيرانية بالهيمنة على المنطقة بعد أن ناضلت هذه الشعوب ضد المستعمرين السابقين، ودفعت أثمانا باهظة لنيل حريتها واستقلالها؟
حلقة مفرغة
فبعد مئات السنين من الهيمنة الخارجية، وقرن كامل من الحروب وثورات التحرر نعود إلى نقطة البداية، وكأننا في دوامة تدور بنا في حلقة مفرغة. والسبب الأساسي في ذلك خلافات الأنظمة، ومعاداة بعضها البعض على «جلد عنز»، وتحالف بعضها الآخر مع المستعمرين الجدد ومدهم بأسباب العيش على حساب الضحية، ومستقبل شعوب المنطقة.
إنها سنة فريدة في تاريخ شعوب وطوائف المنطقة بأكملها، فإما أن تقف هذه الأنظمة يدا واحدة، وتمتلك الشجاعة الكافية، وتأكل من لحم السباع لتقول لا لرأس الأفعى أمريكا، وتضغط بكل ما أوتيت من قوة، ووسائل الضغط، ورباط الخيل، وهي كثيرة، وبإمكانها بكل تأكيد أن تؤتي أكلها، والمطالبة بدولة فلسطينية ولا خيار إلا بها، على كل الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس الشرقية، وطرد المستوطنين منها، وهذا أضعف الإيمان (كنا سابقا لا نقبل حتى بوجود إسرائيل)، وإلا فإن هذه الأنظمة ستقضم أصابعها ندامة، ولات حين مناص، فعِندَما يَتراكَم عَلى المرء كُل شَيء ويصل إلى نُقطة لا تحتمل فحذار من الاستسلام لأنْ في هَذه النُقطة وهذه اللحظة يَتم تَغيير القدر.
٭ كاتب سوري