استوقفتني كلمة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون التي ألقاها في قسنطينة خلال حملته الانتخابية، والتي دعا من خلالها لفتح الحدود بين مصر وغزة من أجل أن تقوم الجزائر بدورها ، إذ قال:” لن نتخلى عن فلسطين بصفة عامة ولا عن غزة بصفة خاصة”. قبل أن يضيف: “أقسم لكم بالله، لو أنهم ساعدونا وفتحوا الحدود بين مصر وغزة… فهناك ما يمكننا القيام به”. “لقد قطعت وعدا.. والجيش جاهز بمجرد فتح الحدود والسماح لشاحناتنا بالدخول، سنبني في ظرف 20 يوما 3 مستشفيات، وسنرسل مئات الأطباء ونساعد في بناء ما دمره الصهاينة”. وأردف: “سبق وقلتها، فلسطين ليست قضية الفلسطينيين، هي قضيتنا نحن، ربما البعض ينسى ويقول: هذا التلاحم بين فلسطين والجزائر بلا معنى في ظل البعد… لسنا بعيدين، البعد فقط في المسافة لكن القلوب عند بعضها”. هذا التصريح يأتي في هذا الزمن كمن يسمع صوتا آتيا من عالم آخر.
نشيد الجزائر
كلام تبون أعادني إلى زمن سحيق عندما كان طلاب مدارس سوريا قاطبة وقبل دخول فصول الدراسة صباحا يقفون في الباحات وينشدون نشيدين: النشيد السوري.. “حماة الديار عليكم سلام”، ونشيد الجزائر.. قسما بالنازلات الماحقات، لدعم الجزائر في ثورتها ضد المستعمر الفرنسي، وكم من امرأة سورية قصت شعرها ووضعت مصاغها في المزادات العلنية التي نظمت لجمع المال لثوار الجزائر، وفي ذكرى وعد بلفور كانت المظاهرات تعم مدن سوريا ونسمع النشيد “فدائي فدائي يا أرض الجدود” كنا نرضع الوطنية مع حليب الأمهات، ومن أفواه المدرسين، ونؤمن أن العروبة تجمعنا من المحيط إلى الخليج، وهذا قبل وصول حزب البعث إلى السلطة وشعاراته المزيفة بزمان.
اليوم نتساءل هل ما زلنا على العهد القديم، أم أن كلمة الرئيس تبون أصبحت مستغربة في عصر الاستغراب. في الواقع لم تتخل الجزائر يوما عن القضية الفلسطينية فموقفها الثابت ينم عن إيمان عميق بها، وشعور رسمي وشعبي أن فلسطين مازالت قضيتها. ففي الجزائر أعلن “الختيار” الرئيس ياسر عرفات عن إعلان دولة فلسطين في العام 1988 وفي الجزائر تمت المصالحات بين الفصائل الفلسطينية، والجزائر وحدها اليوم تخوض معركة دبلوماسية في مجلس الأمن من أجل غزة الجريحة.
«وين العرب وين»
ترن في أذني أغنية “وين العرب وين” كلما شاهدت مشاهد جرائم دولة الاحتلال المروعة في شعب غزة وأطفالها ونسائها وشيوخها، والدمار الذي ألحقته بالبنى التحتية والمدنية.
هناك تساؤلات يطرحها كل من يشاهد هذه المشاهد المرعبة، أين الجامعة العربية التي أنشئت لتكاتف دولها والدفاع عن بعضها بعضا في وقت الخطر والشدة؟ وأين الأنظمة العربية التي كانت يوما تعتبر أن القضية العربية الأولى هي قضية فلسطين؟
ما نشهده اليوم من تراجع رهيب في مواقف الأنظمة العربية يؤكد أن القوى الصهيو ـ أمريكية نجحت نجاحاً مبهراً في تدجين هذه الأنظمة، بل أن بعضها قلب ظهر المجن وصار حليفاً للعدو ضد أخيه المكلوم. وصار مع الجلاد ضد الضحية. بل أن الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية والمقاومة، وانعدام الحراك وكأن الجرائم التي ترتكب في أرض غزة لا تعني أحدا، حتى الشعوب العربية (خلا بعضها) سلمت الأمر لله، لأن لاحول لها ولا قوة أمام جبروت الأنظمة التي منعت عنها حتى التلويح بالعلم الفلسطيني أو القيام بأي مظاهرة أو احتجاج، لأن هذه الأنظمة تعرف أن أي مظاهرة أو احتجاج وإن كان ظاهريا ضد دولة الاحتلال إلا أنه ضمنيا ضدها لتقاعسها وصمتها على الجرائم المروعة بحق إخوتنا في فلسطين.
هل أصبح حمل العلم الفلسطيني جريمة يعاقب عليها القانون؟ وهل الخروج بمظاهرة لنصرة أهل غزة أصبح محظورا تحت مسمى الخلل بالأمن؟ الناطق باسم مجمع ناصر الطبي صرح قائلا: “نركز في قسم الطوارئ الطبي على إنقاذ الأطفال والنساء دفاعا عن العرق الفلسطيني، بعد أن خذلنا إخوتنا العرب”. هذا الانقلاب الجذري في فكر الأنظمة السياسية من الصعب استيعابه، فالمعركة مع دولة الاحتلال اليوم معركة مصيرية، وتاريخية، وتفتح آفاقا جديدة لتحقيق الحلم الفلسطيني ببناء دولته واسترداد أرضه ونيل حريته التي يناضل من أجلها منذ أكثر من 75 سنة، فهل هذه الأنظمة لا تريد حتى للفلسطينيين أن يحققوا حلمهم؟
المشروع الاستيطاني
دولة الاحتلال لن تتخلى عن مشروعها الاستيطاني، فهدفها اليوم إعادة احتلال غزة والضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين في نكبة جديدة، وهي أي دولة الاحتلال تتابع مشروعها الاستيطاني حتى خارج الأراضي الفلسطينية ولو بعد حين وربما ستصل إلى أراضي الدول التي تعتقد اليوم أن تطبيعها معها، وتحالفها مع أمريكا سيحميها ويفتح لها أبواب التقدم والازدهار. إن الشهور العشرة الماضية أظهرت وبوضوح أن أمريكا لا يهمها من كل دول المنطقة سوى دولة الاحتلال لأنها الحليفة ومشروعها الصهيوني الاحتلالي هو مشروع أمريكا أيضا، والمسألة مسألة، وقت، والتغيرات الإقليمية، ونفاد النفط.
في مؤتمر القمة في جدة الذي ضم الدول الإسلامية والعربية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي (منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية) والتي يبلغ عددها 57 دولة، تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة تطوف على الدول الكبرى لشرح وجهة نظرها حول ما يجري في غزة، والعمل على وقف إطلاق النار، وبعد عشرة شهور من الحرب لم تنجح هذه اللجنة التي تشكل أكثر من ربع دول الأمم المتحدة من إقناع، أو ممارسة ضغط من أي نوع لتسمع رأيها، وصوتها، كأنها لا تزن في الميزان الدولي مثقال ذرة، مع أن دولا لا عربية ولا إسلامية كانت سباقة في رفع دعوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، ومنها من قطع علاقاته الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، ومنها من سحب سفرائها من تل أبيب، فلماذا لا تقوم الدول العربية والإسلامية التي لها علاقات مع دولة الاحتلال بتجميد اتفاقياتها معها وسحب سفرائها على أقل تقدير، لأننا نعلم أن زمن إعلان الحرب عليها لم يعد مطروحا البتة، لأن الأنظمة العربية أوصلت نفسها أن تقبل بالسلة بلا عنب، ولا تريد أن تخوض مغامرات غير محسوبة النتائج، ولكن الضغط الدبلوماسي هام وضروري لإبداء موقف مشرف على أقل تقدير أمام دول وشعوب العالم الذين يقفون مع الفلسطينيين ويتظاهرون بالملايين في كل مكان.
كيف ترضى الدول الإسلامية بتدمير مساجد غزة وحرق المصاحف فيها من قبل جيش الاحتلال؟
ديكتاتورية منصات التواصل
ما الفرق بين ديكتاتورية منصات التواصل الاجتماعي، والأنظمة السياسية الديكتاتورية التي تخنق حرية الرأي والتعبير؟
في الواقع أن معظم المنصات الكبرى من إكس، وفيسبوك، وإنستغرام، ويوتيوب هي أمريكية، وهذه المنصات تتحكم بمحتويات المشاركين بها، ولاشك أن هذه المنصات الإعلامية الكبرى التي أنشأت إعلاما أفقيا موازيا، وأي وسيلة إعلام أخرى لها الحق في ذلك إذا كان المحتوى يدعو للعنصرية، أو الإباحية، أو فيه التجني بألفاظ مسيئة لشخص آخر أو لجهة معينة، أو يقدم أخبارا كاذبة وزائفة.. باختصار كل ما يتعلق بأخلاقيات المهنة الصحافية.
ولكن إذا كان الأمر متعلقا برأي لا يمت بصلة إلى كل المحظورات فهو يدخل في باب المساس بحرية الرأي والتعبير. والملفت بالأمر أن هذه المنصات تحذف حسابات أشخاص يعبرون عن رأيهم فيما يخص دولة الاحتلال، ففي آخر عملية حذف وليس الأخيرة قامت منصة “إكس” التابعة لآيلون ماسك الذي كنا نعتبر أنها تحافظ على التوازن وتتمسك بحرية الراي والتعبير كما صرح مالكها قبل الاستحواذ عليها قامت المنصة بحذف حساب الدكتور الإعلامي باسم يوسف (ويحمل الجنسية الأمريكية) الذي يتابعه أكثر من مليون شخص حول العالم، وخاصة في بلدان الأنغلوفون، وذكر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، أن منظمة تدعى “أوقفوا معاداة السامية”، شنت حملة ضد يوسف، حيث اختاره شخصية الأسبوع المعادية للسامية بزعمها، ويعرف عن يوسف بمواقفه المناهضة للإبادة الجماعية في غزة، حيث ظهر عدة مرات على وسائل إعلام أمريكية وبريطانية في مقابلات دحض فيها بجدارة كل مقولات دولة الاحتلال ونظرياتها، بلغة إنكليزية سلسة ولا تتضمن أي تهجم لا أخلاقي، حتى أن رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم قال له: لقد دافعت عن القضية الفلسطينية أفضل من الجامعة العربية.
وقد ذكر يوسف على حسابه مخاطبا متابعيه: “لو اتفرجتوا على الحوارات بتاعتي حتشوفوا إني بحاول اطلع من النقاشات الجانبية وأركز على حاجة واحدة: إسرائيل. وبناقش ده كمواطن أمريكي بيدفع ضرايب وله الحق إنه يحاسب حكومته وممثليه في الكونغرس عن مسؤوليتهم في اللي بيحصل”.
إن حذف حساب يوسف والكثير من الحسابات التي تفند مزاعم دولة الاحتلال، وتبين الحقائق توصم بالعداء للسامية، وتقوم اللوبيات الصهيونية بضغوط على المنصات لحذف حساباتهم، فلماذا لا تحذف حسابات من يدعمون دولة الاحتلال ويوصمون العرب بالإرهابيين والحيوانات، وتلفق الأكاذيب. ويوسف المواطن الأمريكي بحذف حسابه تقول المنصة أن لا حرية للرأي لمن يقول الحقيقة، حتى في أمريكا التي تقول عن نفسها “الأولى في الديمقراطية في العالم” التي قمعت مظاهرات الطلاب المؤيدين للقضية الفلسطينية وأرسلت لهم “شبيحة” للاعتداء عليهم، تماما كما يحصل في دول ديكتاتورية يحكمها طاغية.
المصدر القدس العربي