في سياق الإشارة إلى عدل القضاء زمن الدولة الأموية و ( الفتوحات الإسلامية ) يحدثنا المؤرخون عن واقعة ( فتح ) سمرقند من قبل القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي دون أن يراعي الاشتراطات التي يفترض أن تقدم لأهل البلد قبل اقتحام مدينتهم بالجند والسلاح ، وهي أن يعرض عليهم الإسلام أو الجزية ويمهلهم بضعة أيام ليتدبروا الأمر ويقرروا بشأنه ، فإن قبلوا انتهى الأمر ولا حاجة للقتال وإن رفضوا فالحرب هي التي تقرر مصير تلك المدن .. وعندما علم أهل سمرقند بذلك قرر كهنتها توجيه رسالة للخليفة تشتكي له جيشه وقائده ومخالفته لشروط الحرب وفق مايقرره دينهم .
وتقول الرواية أنهم فعلا بعثوا رسولا منهم لأمير المؤمنين في الشام وبعد شهور وصل الرسول وقابل الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وسلمه رسالة الكهنة ، وبعد أن قرأها كتب عليها عبارة واحدة تقول : ( من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند ، نصّب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا ) وختمها وأعادها للرسول الذي بدوره عاد بها لمن أرسله .
وبالفعل قام عامل الخليفة على سمرقند بتنصيب القاضي ( جُمَيْع بن حاضر الباجي ) لينظر في شكواهم ، وبعدما سمع طرفي الشكوى قضى بإخراج المسلمين وجيشهم من المدينة إلى خارج أسوارها على أن يقوم قائدهم بعد ذلك باتباع السبل المقررة قبل إعلان القتال ، وتستطرد الرواية بالقول أنه ما إن خرج المسلمون منها حتى لحق بهم وفدا من أهلها يعلن باسم معظمهم اسلامهم فيما فرضت الجزية على من لم يسلم .
الرواية جميلة وأعتقد – رغم كونها نادرة - أنها صحيحة على الأقل في معظم تفاصيلها بالنظر لما عرف وتواتر عن عمر بن عبد العزيز من عدل واستقامة ... وهي حقا مدعاة للفخر والتباهي حيث لم يسجل التاريخ قط فعلا مشابها لدى كافة شعوب الأرض حتى الآن .
لكن لا أحد منا فكر يوما بالتساؤل في نفسه ، ولماذا ذهب جيش المسلمين ابتداء لغزو سمرقند أو غيرها من المدن والأمصار والسيطرة عليها ؟؟؟
وهل يتعين أصلا على المسلمين وجيوشهم إعلان الحروب على الشعوب الأخرى للتبشير والدعوة لدينهم الجديد ؟ وهل هو أصلا واجب شرعي أوجبه هذا الدين على أتباعه ومعتنقيه ؟ وما الذي يضمن أن شعوب تلك الدول أو المدن كانت تؤمن بهذا الدين بخيارها الحر أو كرها وخوفا ؟؟؟ .
بداية من المهم أن ندرك ونؤمن أن الله خالق البشر وصانع الكون وقوانينه لم يكره الناس على الإيمان به وترك لخلقه حرية الاختيار بين الإيمان والكفر به ، وأناط بذاته العلية مسؤولية محاسبة الناس على اختياراتهم وأفعالهم ، يقول تعالى في الآية 99 من سورة يونس ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين ) .
وأن الله تعالى أرسل الرسول الكريم داعيا إلى الله ومبشرا للناس ونذيرا لهم كما جاء في الآيات 45 و46 من سورة الأحزاب ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا *) .
والحقيقة أن تلك المهمة المنوطة بالرسول محمد ( ص ) هي نفسها التي أنيطت بعيسى وموسى عليهما السلام وغيرهما من الرسل والأنبياء ، هم مجرد دعاة إلى الله الأوحد ودينه الواحد بلا قسر ولا إكراه كما ورد في القرآن الكريم وكذلك في العهدين القديم والجديد .. أما تلك الحروب و( الفتوحات ) التي شنت على الشعوب تحت راية الصليب أو تحت راية التوحيد هي مجرد حروب دنيوية يبحث فيها من قاموا بها عن المجد والثروة والتوسع لا أكثر ولا علاقة للأمر بالتبشير والدعوة إلى الله .
فالدعوة إلى الله ودينه لاتحتاج جيوشا ولا سلاحا ولا سلبا لمال ولا استباحة لأعراض ، بل تحتاج رجالا آمنوا بالله الخالق الأوحد واتبعوا الصراط في أقوالهم وأفعالهم ، فلا قتلوا ولا أحلّوا دما بغير حق ولا بغوا ولا طغوا ولا استباحوا أموال الناس ، ولا أمروا بمنكر ولا بقول زور ولا دعوة إلى فاحشة ، أولئك هم الدعاة الى الله بسلوكهم لا بسيوفهم وهذا هو المقصود بالفتح .. وليس إطلاق الجيوش والمحاربين على بشر آمنين في بيوتهم وبلدانهم ، ولعل ماحصل في فتح اندونيسيا خير مثال على ذلك ، حيث لم تصلها يد عسس أو عسكر ، لكنها آمنت برسالة محمد من خلال رجال تمثلوا خلق محمدا ودينه فلم يكذبوا بجودة بضاعة تاجروا بها ، ولم يخسروا ميزانهم ، ولم يغشوا ، وأدوا أمانتهم فكانوا خير فاتحين .
الفتح الإسلامي ليس جيشا ولا سلاح ولا يجوز أن يكون كذلك ، فتلك أدوات إكراه ، فكيف تكون أدوات لنشر دين لا إكراه فيه ؟!!
الفتح هو فتح للقلوب والدعوة الى دين الله بالكلمة اللينة الهينة الطيبة والسلوك القويم ، وما خلا ذلك فهو غزو وقتل وعدوان بغير حق لا تجيزه لا التشريعات البشرية ولا الشرائع الإلهية ...
الفتح هو تماما سلوك الاستقامة على الصراط ، لا سلوك القهر والقتل والاستباحة فهل من مدّكر ؟؟ .