سقف التقبل .. السابقة السورية في نموذج غزة !

 يسجل للنظام السوري أنه لم يبدع فقط في فنون ارتكاب الجرائم بحق معارضيه وابتداع أنماط وأنواع من الجرائم ربما يشعر إبليس بالدهشة والمفاجأة عندما يراقب ارتكابها ، لكنه فضلا عن ذلك فقد أبدع في شيء آخر لم يسبقه نظام مجرم إليه قبلا وهو تطبيع الدول والمجتمعات على قبول تلك الإرتكابات وكأنها جزء من آليات عمل معقولة ومقبولة للحكومات تجاه شعوبها وليست شيئا نشازا عما يجب أن تكون عليه الدول والمجتمعات ، أما ذروة إبداعه فهو رفع سقف التقبل الدولي لتلك الجرائم وعدد ضحاياها !!! .

   مع بداية ثورة السوريين عام 2011 لم يجرؤ النظام بداية على استخدام البطش المفرط لمواجهة التظاهرات السلمية فاكتفى باستخدام السلاح الخفيف لحصد أرواح خمسين من الشبان المتظاهرين أسبوعيا ، مع الإصرار على تكرار رواية ممجوجة أن هؤلاء يسقطون ضحايا اعتداءات "عصابات مسلحة " تندس بين المتظاهرين وتفعل فعلها !! .. ومع تزايد حدة التظاهرات وانشقاق عناصر من الجيش لرفضهم الانصياع لأوامر القتل ومن ثم سيطرة هؤلاء على بعض الأحياء في بعض المدن رفع النظام من منسوب الضحايا ليصبح متوسط العدد نفسه في اليوم وليس في الأسبوع ، ومع اتساع مساحات سيطرة الميليشيات المسلحة المعارضة على الأرض تطور شكل الرد والاستجابة ليقوم النظام باستخدام السلاح الثقيل ويقصف المدن والبلدات بشكل جنوني وعشوائي مترافقا ذلك مع إطلاق " العناصر الجهادية " من سجونه وغض الطرف عنها في تشكيل ميليشياتها العسكرية ذات التوجهات الإسلامية المتطرفة ليعزز روايته أنه يحارب الإرهاب ويقصف حواضنه ! .

   لم تلق تلك الأفعال الاجرامية أية ردود فعل دولية حاسمة ، واكتفت الحكومات العربية والغربية بمجرد الإدانات لهذا السلوك البربري وإطلاق تصريحات هزلية عن فقدان النظام لشرعيته دون أن يترتب على تلك التصريحات طردا لممثليه مثلا من الأمم المتحدة على أقل تقدير ، الأمر الذي قرأه النظام – وهو لاتعوزه الخبرة في قراءة التصريحات والسياسات ضمن المشهد الدولي – على أنه بمأمن من المساءلة فضلا عن عدم اتخاذ إجراءات صارمة وحاسمة نحو إسقاطه باعتباره مايزال يؤدي وظيفته الأساسية في حفظ أمن إسرائيل ولا يشكل تهديدا للمصالح الحيوية الغربية في المنطقة وهو الدور الذي طالما أجاد أداؤه على مسرح السياسة الإقليمية ، فيما كانت المعارضة تكرس الفشل تلو الفشل وتعمق ارتهانها لتناقضات المصالح الإقليمية في هذا الصراع .

   الآن وعلى المقلب الآخر نلاحظ أن القوات الصهيونية في المشهد الحالي للصراع في غزة تقتدي بتجربة الأسد وميليشياته وتمارس القتل الأعمى والبطش المفرط بحق المدنيين الفلسطينيين باعتبارهم حواضن لحماس ( الإرهابية ) التي يتوجب عليهم اجتثاثها فصرنا نشاهد مسرحا كبيرا لممارسة التدمير الشامل لكل شيء ضمن مايمكن تسميته بسياسة الأرض المحروقة كتلك التي اتبعتها ميليشيات الأسد في قصفها لحلب ولمختلف المدن والبلدات المحيطة بدمشق ونرى الجيش الإسرائيلي يستهدف مبان سكنية ومشافي وأحياء كاملة دون أي اكتراث بحياة المدنيين حتى وصل عدد الضحايا حتى تاريخ كتابة هذا المقال مايزيد عن أحد عشرة ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى والمصابين ثلثهم من الأطفال وجلهم تقريبا من المدنيين (!!!) دون أن يرف للقتلة وداعموهم من دول التحضر وحقوق الانسان جفن ...

   يقول الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن القصف الصهيوني دمر منذ بدء عملياته العسكرية في غزة وحتى تاريخ كتابة تلك السطور 25000 مبنى وألحق أضرارا بـــــــ 223.000 ألف وحدة سكنية كما دمر 42.000 منزلا مستقلا و95 مقرا حكوميا ، بالإضافة لعشرات المساجد وثلاث من الكنائس .. وهذه نتائج تكاد تكون مستنسخة عما فعله جيش النظام السوري في حلب ومدن أخرى عام 2016 و2018 .

   هل يذكرنا حصار غزة وقطع المياه والكهرباء والغاز والانترنت ومنع وصول الامدادات الغذائية ، بما قام به نظام أسد وداعموه في الغوطة والزبداني والعديد من المدن والبلدات الأخرى عندما منع قوافل الإغاثة الدولية من الوصول للمدنيين حتى اضطروا لأكل الأعشاب وأوراق الشجر (!)

   الحقيقة العارية تقول أن إسرائيل لم تكن لتجرؤ على ارتكاب كل هذه الجرائم – وهي المدمنة على فعل ذلك طوال سني الاحتلال - لولا أنها قرأت تلك السابقة التي سنها الأسد وجعلها نبراسا وسنّة يقتدى بها من قبل نظم الاجرام طالما أن المجتمع الدولي اكتفى ان يواجهها بالشجب والاستنكار فحسب ...

   حقا لقد رفع " الأسد " وعصابته الحاكمة سقف تقبل المجتمع الدولي لارتفاع أعداد الضحايا المدنيين الذين يمكن أن يسقطوا ضحايا للنزاعات والصراعات المسلحة ، وجعل العالم يتطبع من فرضية سقوط آلافا من الضحايا المدنيين دون أن يحرك ساكنا أو يشعر بتأنيب الضمير .

   يبدو أنه آن الأوان لإحالة تمثال الحرية المنتصب على ضفة خليج نيويورك إلى التقاعد فشعلة الحرية التي يحملها بيده اليمنى حجب نورها عن منطقتنا وشعوبنا ، وإعلان الاستقلال الأمريكي الذي يحمله بيده اليسرى أريد به خاصية لهم ولشعوبهم فحسب ، بينما أنيط بالعسكر أن يلتهموا استقلال أوطاننا ويفترسوا حرياتنا !!!