يقول المثل الشعبي الروسي ( عندما تكتشف أنك ركبت القطار الخطأ بادر للنزول في أول محطة لأن كلفة العودة تكون أقل ) .. وهي حكمة ترشدنا إلى وجوب العودة السريعة عن الخطأ قبل الإيغال به وتعذر العودة عنه .
روسيا عندما أطلقت جيوشها الغازية نحو الأراضي الأوكرانية قبل نحو ستة أشهر ركبت القطار الخاطىء لكنها ماتزال توغل فيه وتستمر في عدوانها رغم الأكلاف العالية التي تتكبدها على الصعيدين البشري والمادي وماتزال ترفض النزول من القطار الخاطىء رغم توقفه في عدة محطات ، وماتزال تعاند وتكابر وتصر على أنها تركب القطار الصحيح بينما العالم كله يقول لها إنه القطار الخطأ الذي يقودها نحو مزيد من الدمار الاقتصادي والخسائر البشرية وسيجعل هذا التعنت من إمكانية نزولها من القطار أكثر صعوبة وأعلى كلفة وربما يؤدي إلى مالا يحمد عقباه على المستوى العالمي .
يوم أمس أعلنت روسيا تعبئة عامة جزئية على أراضيها وهو مؤشر خطير لايؤشر فقط إلى استمرار التعنت والعناد بل إلى مرحلة تصعيد ربما تكون أخطر كثيرا مما سبق لأنها بدأت تدرك أنها تواجه حربا حقيقية مع دول الناتو لكن بالوكالة .. ويتزامن ذلك مع تصريح للرئيس الصربي الكسندر فوتشيتش أن العالم سيشهد في الأشهر المقبلة نزاعا لم يشهده منذ الحرب العالمية الثانية ، وهو تصريح ليس بريئ بالنظر للأوضاع المتوترة أيضا في البلقان بين صربيا وكوسوفو ، وبين كيان صرب البوسنة والحكومة المركزية البوسنية مايهدد أيضا بتفجر نزاعات مسلحة جديدة بين الصرب - الذين لم يهضموا بعد فكرة استقلال إقليم كوسوفو - والكوسوفيين ، وكذلك بين صرب البوسنة – الذين يسعون للانفصال عن كيان الدولة البوسنية الاتحادية وبالتالي تقويض اتفاق دايتون للسلام - والبوسنيين وهي صراعات تحاول روسيا تغذيتها لنقل حقول النار من أطراف شرق أوروبا إلى وسطها وإجبار أوروبا ومن ورائها أمريكا على صياغة مقاربات جديدة لرؤيتها لروسيا وطريقة تعاملها معها بوصفها قوة عظمى لها وزن وحيز دوليين تريد ملأهما لتكون شريكا كاملا في صياغة السياسات الدولية وإنهاء حالة القطبية الواحدة التي استحوذت عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 .
إلى الشرق قليلا .. خرجت قبل أيام من تحت الرماد بعض ألسنة اللهب على جبهة كاراباخ بين أرمينيا وأزربيجان نأمل أن لايتسع إوارها ويكتفي الشعبين بما لحق بهم من دمار واستهلاك للموارد ..
وإلى الشرق أكثر ثمة نزاع صامت لم يجد العقلاء له حلا منذ عام 1947 بين الهند وباكستان .. ونزاع بارد آخر في الشرق الأقصى بين تايوان والصين .. آن أوان إيجاد صيغ وحلول متعقلة لكل تلك النزاعات ليكون السلام عنوانا غالبا بديلا عن الصراعات والحروب ويكون ثمة معنى لليوم العالمي للسلام .
إذا .. العالم اليوم على شفير صراعات عسكرية مفتوحة قد تتطور لتطال أمكنة ومساحات أكبر وربما تفضي إلى جحيم نووي سيدفع الجميع ثمن تماديهم وغلو أطماعهم وغرورهم ، مايوجب معه استثمار منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعقد جلساتها الآن لبذل جهود حثيثة من بعض أصحاب الرؤوس الباردة على أمل بناء فرص ومحطات للسلام يوقفون فيها قطار العنف والتمادي في استخدامه ويصوغون فيها مخارج ديبلوماسية تحفظ بعض ماء الوجه للمتصارعين لا لأجلهم بل لأجل البشرية التي ما انفكت تظلم في سلامهم وتنحر في صراعاتهم وحروبهم .
ويبقى أن نقول أن كل المحاولات التي تبذل أو ستبذل من قوى دولية أو إقليمية لصناعة سلام في سوريا يقوم على ثنائية بقاء النظام وعصابته الحاكمة ، وإكراه السوريين على العودة لبيت الطاعة ، لن تفضي إلى صناعة سلام مستدام ، فلا يستقيم القول بالتعايش والمساكنة بين القتلة والمجرمون وبين دعاة الحرية والكرامة وسيادة القانون .