كانت قبائل العرب قديما زمن الجاهلية ينشدون في طوافهم حول الكعبة وقت حجهم قائلين : ( نحن غرابا عك ) وعك هي قبيلة يمنية يقصد أهلها الحج كل عام وكان يتقدمهم في الطواف عبدان شديدا السواد يرددان هذا القول ( نحن غرابا عك ) أي نحن عبدا قبيلة (عك ) حيث كان يسمى العبد شديد السواد بالغراب ، فيردد خلفه أبناء القبيلة ( عك إليك عانية .. كيما تحج الثانية ) أي نحن قبيلة عك جئنا إليك خاضعين لنحج اليك مرة أخرى .. ثم يتوجهون لخطاب الإله الأكبر والتهليل له فيقولون ( لبيك اللهم هبل ) وهو كبير الآلهة التي اتخذت وسيطا بينهم وبين الله فاطر السموات ومشرّع الحج .
كان هذا في زمن جاهلية العرب قبل أن يمّن الله عليهم بنعمة الإسلام وعبادة الله الواحد الأحد دون أن يكون لهذا الخالق العظيم شريكا أو وسيطا بينه وبين عباده .
فيما يبدو اليوم يريدنا البعض أن نعود حقا لزمن الجاهلية والشرك وصناعة الأصنام وعبادتها ، عندما يصّر أن يجعل بيننا وبين خالقنا آلهة بشرية أو وسطاء دينيون ، نلتمس عبرهم ومن خلالهم عفو الله وغفرانه ، ونتخذ من طرائقهم وأفكارهم ومذاهبهم ومشاربهم واجتهاداتهم طقوس وسبل عبادتنا لله الخالق الصمد تحت طائلة الزندقة والتكفير إن جادلت وخالفت واتبعت ملة إبراهيم ولم تتبع ملتهم ، مايثير الهلع لدى البعض فيعود إلى جادتهم خانعا خاضعا ، ويفر بعضهم من دين الله أفواجا ، ويتمسك البعض برؤيته المتبصرة في اتباع سبل الرشاد ورفض هذا الإكراه .
فأنت كمسلم ملزم – حسب رأي هؤلاء – بفهمهم هم للإسلام ، وملزم بما جاء في ( صحيح البخاري ) باعتباره ( أصح كتاب بعد كتاب الله ) سواء أجاء فيه مايستقيم وينسجم مع كتاب الله أو ماجاء مخالفا له باعتبار أن القرآن ينسخ بالسنة ( كما يزعم كثيرهم ) ، وأنت ملزم باجتهادات وآراء فقهائهم سواء اتسقت مع المنطق القويم والعقل السليم أو خالفتهما (!) لأنها تعبر عن ( اجماع الأمة !!!) .. فإذا ما قلت أنا مسلم وملتزم بأوامر الله ونواهيه التي أرسلها لنا في قرآنه ولست ملزم بكل هذا الهراء ، قالوا عنك ( قرآني ) وكأن هذا التوصيف سبّة أو تهمة نخشاها (!) ثم تتراوح الأحكام عليك بين كافر ومنكر للسنّة وبين زنديق يسعى لتقويض دين الله وبين مرتد ينكر ماهو معلوم من الدين بالضرورة (!!!) .
والحقيقة أنك تحار كيف تحاور هؤلاء وكيف تقنعهم بمخالفة الكثير من الأحاديث لشرع الله وأنك تملك الحق في أن تقول لهم أنا لا أؤمن بحديث يقول ( أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ ) حتى لو صح صدوره عن محمد (ص) وأجزم أنه لايمكن أن يصدر عنه ، لأن لدي قول لله تعالى يدحض هذا الكلام ويكذبه .. يقول تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) فالله الكلي القدرة ترك الخيار للبشر أن تؤمن أو لا تؤمن ورفض من رسوله الكريم إكراه الناس على الإيمان وهذا مايتناقض تماما مع ماجاء في هذا ( الحديث ) وهذا طبيعي جدا لأن الله ذو المشيئة الكلية قد خصّ الإنسان وحده من بين مخلوقاته ببعض تلك المشيئة لأنه أعطي العقل الذي يفكر ويتدبر والإرادة التي يحقق بها ما يشاء ليكون مسؤولا عمّا شاء وقرر ، أي يكون مسؤولا عن اختياراته فيكون محل ثواب إن استقام واتسق مع مشيئة الله ، أو محل عقاب إن خالف تلك المشيئة الكلية للخالق فالإنسان وحده من مخلوقات الله الذي منحه خالقه حق الخيار لكي يترتب على هذا الحق عدل الله فيه .
وأنني أيضا لا أؤمن بحديث آخر منسوب لرسول الله يقول : (من بدل دينه فاقتلوه !!! ) ، ولا يمكن أن أؤمن أن الرسول الكريم المكلف بالبلاغ يقول مثل هذا القول ، الذي بناء عليه أهدرت آلاف الأرواح وسفحت دماء أصحابها ، مع العلم أن القرآن الكريم لم يلزم أحدا أن يؤمن بالإكراه والقسر ، كما لم يرتب عقابا دنيويا على من ارتد عن دينه ، بل أناط الله لنفسه أمر عقابه ، ولم يرد في القرآن الكريم أي نص صريح أو حتى مجرد تلميح إلى عقوبة دنيوية على المرتد ، فالله توعد المرتد بعقوبة أخروية فحسب : (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) " النساء 137" (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) "البقرة 217 "... ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) " الكهف 29 " وقوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) البقرة 25 !!! .
هذا مثال على مايتعلق بالحديث وهناك مئات الأمثلة على مايتعلق بآراء فقهية شاذة وغريبة لا تكفي المساحة هنا لاستعراضها ومناقشتها ودحضها ، وهذه الأمثلة تجعلنا نقول أن الفقه ليس شيئا يعبر عن حقائق ثابتة مطلقة في حجيتها محصنة من الشطط والخطأ ، بل هي مجرد رأي بشري يخطئ هنا ويصيب هناك ، ونحن في كل الأحوال لسنا ملزمين به بوصفه ( جزءا من عقيدتنا ) حتى لو أجمع عليه آلاف من الدرّاس والمجتهدين والباحثين ، ويبقى العقل هو الميزان والفيصل في توكيد أرجحية رأي على رأي آخر أو حتى في استبعاد الرأيين معا واجتراح رأي ثالث قد يكون أقرب للعقل والمنطق واللب السليم .
لذلك فلا يحق لأحد أن يعيدنا إلى زمن الجاهلية لنلبي لهبل ومايشبهه من كائنات بشرية تم تصنيمها ، ولا أن يجبرنا على اتباع مايؤمن هو به من الحديث والمذاهب الفقهية واجتهادات "حراس العقيدة " وأصحاب الطرق والتكايا بعد أن جعلوها أصناما تعبد وتتخذ وسيلة لعبادة الله الأحد .
لقد رسم الله لنا سبيل الخلاص عندما دعانا إلى صراطه المستقيم بالقول : (( قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (151) وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (153)الأنعام )).