أسقطت محكمة الاستئناف الفرنسية في باريس بقرارها الصادر يوم أمس الأول التهم المتعلقة ( بالتواطؤ في عمليات الاخفاء القسري وعمليات الاختطاف والاحتجاز ، والتواطؤ في جرائم حرب بشن هجمات متعمدة ضد المدنيين ) المنسوبة إلى المتهم ( مجدي نعمة ) المعروف بإسم " اسلام علوش " الناطق الرسمي السابق لـــــ " جيش الإسلام " وبرأته منها ، كما ألغت كافة الإجراءات المتخذة ضده فيما يتعلق بتلك التهم ، لكنها أحالته في نفس الوقت إلى المحكمة الجنائية لمحاكمته عن تهم التواطؤ بارتكاب جرائم حرب في سوريا بين عامي 2013 و2016، والتواطؤ في تجنيد قاصرين ضمن جماعة مسلّحة ، والانضمام إلى جماعة كانت تنوي ارتكاب جرائم حرب (!!!) .
ولطالما أثارت تلك القضية الجدل بين السوريين حيث اعتبر معظم التيار المحافظ وكل الاسلامويين أن القضية لا ترتكز على أسس قانونية صرفة وأن لها أبعادا سياسية تتعلق بتصفية حسابات مع منسوبي " جيش الإسلام " المتهم بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات في الغوطة وباختطاف المحامية رزان زيتونة ورفاقها الأربعة النشطاء في مجال توثيق الجرائم والانتهاكات وإخفاؤهم قسرا ،
في ذات الوقت الذي يهلل فيه هؤلاء للمحاكمات التي تتم على نفس الأسس والتي تطال رموزا وعناصر من النظام السوري وميليشياته لمساءلتهم عما ارتكبوه من جرائم في الصراع السوري والتي تعقد أمام محاكم بعض الدول الأوروبية بالاستناد لمبدأ الولاية القضائية العالمية للمحاكم الأوروبية فيما يتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، وكأن العدالة يجب أن تكون بعين واحدة !!! .
بالعودة إلى قرار المحكمة الفرنسية يمكن القول أن المتهم ( اسلام علوش ) ورغم ما أشيع عن تعرضه لضغوط ومحاولة مناصريه النيل من عدالة واستقلالية القضاء الفرنسي فإن هذا الحكم يؤشر إلى خلاف ذلك ويؤكد أن المتهم قد حظي بمحاكمة عادلة تماما من قبل محكمة تتمتع بكامل الاستقلالية وتتخذ قرارها في ضوء الوقائع والقرائن والأدلة القانونية المطروحة أمامها ، وليس استنادا لرؤى ومواقف سياسية تتعلق بجهة انتماء المتهم واعتقاداته السياسية وهو مايجعل الجميع يركن لقرارات القضاء ويمتثل مطمئنا لأحكامه.
وأعتقد أن تهاوي معظم التهم المنسوبة للمتهم وإسقاطها من قبل المحكمة يمهد الطريق غالبا لتبرئته من باقي التهم إلا إذا كانت لدى المحكمة الجنائية المنوط بها النظر ببقية التهم ، أدلة قاطعة تسعفها لا تقوم على الشك والاحتمالات ، خصوصا أن تهمة ( الانضمام إلى جماعة كانت تنوي ارتكاب جرائم حرب ) كما هو واضح من تكييفها القانوني تهمة متهافتة ، ذلك أنك كمتهم لايمكنك الإفتراض والتنبؤ مسبقا بأن الجماعة المسلحة التي تنضم إليها سوف ترتكب جرائم حرب بالضرورة (!) كما أن المحكمة لا يمكنها بناء تهمة على حالة افتراضية تتعلق بالنوايا ، كما لايمكنها بناء حكم قضائي تأسيساً على ذلك ، خصوصا أن تلك التهمة تحديداً تأسست كما هو واضح على عنصر الشك والافتراض ، ومن المعلوم قانونياً أن الشك دائما يجب أن يفسر لصالح المتهم .
والحقيقة أني شخصياً غير معني بالدفاع عن المتهم ( اسلام علوش ) ولا أسعى إلى ذلك ، لكني كرجل قانون وكسوري أبتهج لتبرئته بالتأكيد إن كان بريئاً ، وكذلك أفرح لإدانته إن كان مداناً فعلاً ، بنفس القدر الذي أفرح فيه لإدانة أي متهم محسوب على النظام وميليشياته المجرمة من أولئك الذين يحاكمون أمام مختلف المحاكم الأوروبية ، رغم أني على المستوى الشخصي أرى أن " جيش الإسلام " كغيره من الميليشيات الضالعة في الصراع المسلح قد ارتكب من الجرائم والانتهاكات بحق السوريين مالا يعد ولا يحصى ، وأنه كغيره من الأدوات الميليشيوية قامر بالثورة وتاجر بالسوريين ومصائرهم ، وأثرى قادته وممثليه على حساب جوع الناس وأوجاعهم ، لكني هنا أحلل الموقف القانوني الصرف فيما يتعلق بالقرار الصادر عن القضاء الفرنسي بعيدا عن موقفي السياسي من كل ماجرى ويجري في المسألة السورية .
فنحن هنا كرجال قانون معارضون ، وكمؤسسات حقوقية نبحث عن العدالة ونتحرى أسبابها لجميع المتهمين بارتكاب مختلف أنواع الجرائم في سوريا ، وأزعم أن هذا الرؤية هي تماما ما يحكم عمل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير وهو الجهة الحقوقية التي تقدمت بالشكوى على ( مجدي نعمة – اسلام علوش ) أمام القضاء الفرنسي ، وهي نفس الرؤية التي تحكم عمل جميع المؤسسات الحقوقية العاملة على ملف مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية في العديد من المحاكم الأوروبية .
هو عمل حقوقي صرف يسعى للعدالة من أجل الضحايا وإنصافا لذويهم ، والأهم أنه عمل يسعى لتكريس ثقافة المساءلة بديلاً موضوعيا ًعن ثقافة الإفلات من العقاب لتكون مبدأ راسخاً ضمن منظومة مبادئ وقيم نحتاج العمل عليها من أجل التأسيس لسوريا مختلفة والعمل لمستقبل سوري أفضل .