العسكر الذي سلب الاستقلال وافترس الدولة..

 اليوم هو ذكرى استقلال سوريا عن فرنسا يوم أن غادرت آخر دفعات الجنود الفرنسيين أراضي سورية عام 1946 لتبدأ مرحلة بناء الدولة الوطنية الحديثة على يد أبنائها.

 لم تمضِ سوى أقل من ثلاث سنوات على هذا الاستقلال حتى فوجئ السوريون بأول انقلاب عسكري يسطو به الجيش على السلطة، وهو شيء غير مسبوق بعد في المنطقة لتبدأ بعدها متوالية الانقلابات في سورية نفسها وتنتقل بالعدوى لدول أخرى في المنطقة التي بدأت تتغير سريعاً ملامحها على وقع " البساطير العسكرية " ظنّ كثير من الناس حينها – قناعة أو سذاجة – أن صانعوا الموت والحروب يمكن أن يصنعوا الحياة (!).

مسار طويل من العبث بالمجتمع والسياسة والموارد خاض به العسكر حروبهم الداخلية، ابتداء ضد فئات وطبقات من المجتمع، يعتقدون أنها تشكل خطرا على سلطتهم، ومن ثم ضد أي مظهر من مظاهر الرفض لتلك السلطة ولمبدأ تدخل العسكر في السياسة أو اقتحام الفضاء العام.

   عام 1949 وحده شهدت سوريا ثلاثة انقلابات عسكرية؛ أولها في شهر مارس (آذار) 1949 بقيادة حسني الزعيم، وذلك ردا على الانتقادات اللاذعة التي وجهت للجيش على خلفية هزيمته في حرب فلسطين عام 1948 (!) حيث وصف الوطني الفذ " فارس الخوري " هذا الانقلاب بأنه (أعظم كارثة حلّت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة) وهو قول لايخلو بالتأكيد من حكمة وبعد نظر.

   تلاه في شهر أغسطس (آب) من نفس العام، الانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي، ثم في شهر ديسمبر (كانون أول) من نفس العام أيضا قاده أديب الشيشكلي الذي حافظ آنذاك على النظام الدستوري وأعاد السلطة للمدنيين لكن دون أن يكف يد العسكر عن التدخل من وراء حجاب.. وبطبيعة الحال كان لكل انقلاب مبرر وأسباب يفندها الانقلابيون في بيانهم الأول في محاولة لتبرير فعلتهم وكسب مشروعية شعبية لها.

   في نوفمبر ( تشرين ثاني) عام 1951 مرة أخرى يقود أديب الشيشكلي انقلابا آخراً، بعد رفض رئيس الحكومة معروف الدواليبي تدخل العسكر وفرض الجنرال فوزي سلو وزيرا للدفاع ، وهو المزكّى من الشيشكلي نفسه، لكن هذه المرة ألقى الشيشكلي بالنظام الدستوري في سلة القمامة، واعتقل أعضاء الحكومة وأعضاء في البرلمان وزج بهم في السجون ونظم انتخابات صار بموجبها رئيسا للدولة (!) .

   بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر أي في شهر فبراير ( شباط ) 1954، وعلى خلفية احتجاجات طلابية في حلب قام الجنرال فيصل الأتاسي بتمرده في حلب، وسيطر على قيادة المنطقة الشمالية وعلى إذاعتها وبث منها بيانه الأول بعد أن سمّاها إذاعة سورية الحرة، ووجه نداء لقادة الجيش بالانضمام له، وهذا ما تمّ فعلا في معظم المدن السورية باستثناء دمشق التي يسيطر عليها الشيشكلي، الذي فضّل التنحي ومغادرة سوريا على سفح الدماء وإشعال أتون حرب أهلية، وقام الجنرال الأتاسي بتسليم السلطة للمدنيين الذي ألغوا دستور الشيشكلي وأعادوا العمل بدستور العام 1950 .

   عام 1958 وبضغط من العسكر أيضا الذي لا يريد مغادرة المشهد السياسي بكليته، تمت الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا وصار جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة التي سرعان ما تحولت إلى دولة بوليسية لم تؤمم فيها السلطات المصانع والشركات الكبرى فقط، وإنما أممت أيضا العمل السياسي نفسه، وأغلقت الفضاء العام أمام المجتمع وصار للكلمة ثمن يسدده الناس خلف القضبان وفي أقبية المعتقلات، وهو شيء لم يعتده السوريون من قبل رغم طغيان العسكر فيها.

   خاب أمل السوريين في الوحدة وفي عبد الناصر، وسرعان ما حصل الانفصال بانقلاب عسكري في أواخر سبتمبر ( أيلول ) 1961 بعد ثلاث سنوات ونصف من الوحدة عانت فيه البلاد من كوابيس المكتب الثاني الذي يمكن اعتباره النواة الأولى لأجهزة المخابرات السورية بوجهها الإجرامي الدميم الذي نعرفه.

   مرة أخرى يعيد العسكر السلطة للمدنيين لكن كانت تغيرات كثيرة قد طرأت على بنية المجتمع والأدوات الاقتصادية والتيارات السياسية، وصار من الصعب استعادة الشكل التقليدي للحياة السياسية والدستورية التي أسست للدولة السورية بشكلها المعاصر، وأصبحت بنية المجتمع والدولة هشّة أكثر، والجيش تتنازعه الصراعات والولاءات الحزبية مما مهد لانقلاب مارس (آذار) 1963 الذي قاده مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين، والمستقلين، الذين أرسلت معظمهم اللجنة العسكرية في حزب البعث إلى مصر بمهمة استعادة الوحدة مع مصر، وسرعان ما أقالتهم واعتقلت من عاد منهم، ليتفرد عسكر البعث بالسلطة ولتبدأ عملية ممنهجة في الجيش لتصفية كل من يشك بولائه ولتبدأ بالتالي صراعات داخل حزب البعث نفسه بين أجنحته المختلفة والمتعددة الانتماءات والولاءات، مما قاد لانقلاب جديد في فبراير ( شباط ) عام 1966 على ما يعرف بالقيادة القومية للحزب التي يقودها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز وما يتبعها من عسكر، وإقصائها عن السلطة من قبل ما يعرف بالقيادة القطرية لنفس الحزب التي يقودها صلاح جديد واللجنة العسكرية التي يسيطر عليها جديد نفسه وحافظ الأسد ومحمد عمران الذي تم إسقاطه لصالح تحالف الأسد – جديد.

   إثر هزيمة مذلة له ولجيشه وبعثه في حزيران 1967 انقض حافظ الأسد على السلطة في السادس عشر من نوفمبر ( تشرين ثاني ) 1970 منهيا تحالفه مع صلاح جديد ليتفرد وحده بالدولة – الغنيمة، ويحولها إلى مزرعة يمارس فيها توحشه و يفترس فيها الناس والثروة والموارد، ويجعلها وقفا مستباحا له ولعصابته التي أوصلت سوريا إلى المآل الحالي.

   اليوم.. لم تعد سوريا حكرا على عسكرها الطائفي، فضرورات الحفاظ على السلطة والثروة أرغمت الطاغية الصغير- الذي تسنّم المزرعة في لحظة غفلة وجبن استوطن نفوس السوريين لعقود - أن يستجلب كل أشكال الاحتلالات وشراذم الميليشيات التي داست ببساطيرها العسكرية استقلال سورية الذي كان يفترض أن يحتفل السوريون به ككل الشعوب والدول الأخرى التي تحترم تاريخها وشعبها واستقلالها ... لكنهم ربما أدركوا متأخرين أن المستعمرين لم يجلوا عن بلادنا، وإنما هم فقط عيّنوا وكلاء لهم لإدارة تلك المستعمرات لا أكثر.

   هو تاريخ نرويه لجيل لم يعاصره، أو لم يقرأ عنه، أو قدمت له الوقائع مدلّسة ومع ذلك صنع ثورته وتمرد على الخوف، فتحالفت كل قوى الشر في العالم لمنعه من صناعة استقلال حقيقي لبلده.

   أهمية معرفة التاريخ وإدراك العوامل التي ساهمت بصناعته مسألة مهمة ليتمكن صانعو المستقبل من رفض كل ما يمكن أن يسهم في إعادة انتاج وقائع تاريخية مشابهة ستفضي حتما إلى نتائج أكثر سوءا وكارثية وأن صناعة المستقبل لا تقوم على استلهام التاريخ، وإنما على تلمس الاحتياجات وبناء الرؤى لما ننشد وتوظيف الموارد لتحقيقها.