تقدم مؤخرا اتحاد نقابات المحامين التركية بدعوى أمام مجلس الدولة التركي بهدف وقف العمل وإلغاء اللائحة المعدلة المتعلقة بمنح الجنسية التركية من خلال الاستثمار في تركيا ، معتبرا هذه اللائحة بلا أي أساس قانوني وهي غير دستورية باعتبارها تختزل مفهوم المواطنة، الذي يعبر عن الارتباط القانوني والسياسي والولاء للدولة، ويقيمه بعملة أجنبية ، مما يجرد المفهوم من معناه وقيمته ويبعده عن جوهره الأساسي الذي لايمكن تقويمه بالمال .
في سورية كان آخر إجراء يحمل معنى وطنيا قامت به نقابة المحامين السورية هو إصدارها بيانا مع نقابات مهنية علمية أخرى طالبت فيه بإنهاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة واطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتقليص الأجهزة الأمنية وصلاحياتها وأزالة الأسباب التي تؤدي لبروز الممارسات الطائفية في البلاد أيا كان مصدرها وذلك في محاولة لتفكيك عناصر الأزمة والمواجهات العسكرية بين السلطة والإخوان المسلمين أوائل ثمانينيات القرن الماضي وهذا جزء من دورها الوطني في الدفاع عن الحريات العامة وسيادة القانون خصوصا أن تلك المطالب هي جزء من الحقوق والحريات العامة المنصوص عنها في الدستور (!) فكان رد سلطة العصابة على ذلك إعلان حل النقابات وفروعها في كافة المحافظات واعتقال مجالسها وتعيين مجالس نقابات بقرار أمني ، ومنذ ذلك التاريخ يمكن القول أن كل النقابات دخلت مرحلة الموت السريري وانحصر عملها بمجرد إدارة شؤون أعضائها من الناحية المهنية والاستجابة للإملاءات الأمنية فحسب .
عندما انتسبت لنقابة المحامين بحلب عام 1989 أدركت رعيلا من الأساتذة الذين عاصروا تلك الفترة وبعضهم كان ممن تم اعتقالهم لسنوات طوال ولمست الأثر الكبير الذي خلفه قمع النقابات وحلها وإعادة تشكيلها كواحدة من أزرع السلطة ولم تعد فضاء للعمل الوطني والدفاع عن الحريات العامة والحقوق الدستورية ، حتى ليمكنني القول أن النقابة ليست إلا خيمة سيرك يمارس تحتها الكثير من منسوبيها الألعاب البهلوانية والتهريج الذي منحها سلطة لمساءلتي مسلكيا أواخر عام 2009 لأني أديت واجبي القانوني وتقدمت بطعن على حكم قضائي لم يكن في صالح موكلي دون استئذانه بتقديم هذا الطعن (!!!) .
في الشارع المعروف بـــــ ( جادة الخندق ) على ماتسعفني به الذاكرة كثيرا ما شاهدت لوحة على إحدى الشرفات العتيقة مكتوب عليها ( نقابة عمال اللحم بعجين وعش البلبل ) وهي واحدة بطبيعة الحال من عشرات - وربما مئات النقابات - التي تعج بها دولة البعث ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( نقابة عمال البلور والمرايا ) و ( نقابة عمال الكعك والبرازق ) !!
كل تلك ( النقابات ) المفترضة هي ( حق دستوري ) يضمن للمواطنين حقهم بالانتظام ضمن بنية نقابية تنظم ممارستهم لمهنتهم وتحمي مصالحهم العليا حيث نصت المادة 45 من دستور 2012 على : ( حرية تكوين الجمعيات والنقابات، على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية، مكفولة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون ) وعلى هذا الأساس يمكن فهم الأسس ( الوطنية ) التي تقوم عليها نقابة عمال اللحم بعجين وعش البلبل في تحديد حجم أقراصها وكمية اللحم في تلك الأقراص والمدة الزمنية اللازمة لشي كل منها وحق من يفعل ذلك في تذوق قرص واحد لا أكثر من كل كيلو غرام يقوم بصنعه !!! .
وعلى ذات النسق والنهج تشكلت لدينا على ضفة المعارضة نقابات أيضا للمحامين تكرر نفس آليات عمل نقاباتنا العتيدة السابقة وتنأى بنفسها عن كل مايحصل حولها من جرائم وانتهاكات يرتكبها هذه المرة من تاجروا بنا وبقضيتنا وباعوها بأبخس وأحط الأثمان ، ولم تجرؤ واحدة منهم قط على إصدار أو تبني بيان يدعو لسيادة القانون وحماية الحريات العامة .
في هذه البلاد المشهورة بوجبة " اللحم بعجين " ليس لديهم نقابة لعمال اللحم بعجين تلم شملهم وتكفكف دمعهم وتدافع عن مصالحهم وتحمي مكتسباتهم ؟!!! ..
لكن لديهم نقابات للمحامين ماتزال سيدة منبرها وصانعة قرارها ، تملك القدرة على مناكفة السلطة ومواجهتها بالأدوات القانونية عندما يتعلق الأمر بمسائل وطنية أو قوانين ترى فيها تجاوزا أو امتهانا لمفهوم المواطنة .