ما أن وضع الشيخ أسامة الرفاعي حجر الأساس للصرح البابوي الإسلامي السوري في مدينة اعزاز حتى اعتلى منبر الجامع الكبير وحوله رهط من أتباعه ومريديه ، ومؤمنيه ومنافقيه ، ليلقي على السوريين في هاتيك المناطق عظته الافتتاحية حول المؤامرة الأممية للنيل من كيان الأسرة المسلمة عبر أدواتها التي جندتها وكلفتها بالفتك في بنيان الأسرة السورية وتأليب المرأة على سلطان أبيها أو زوجها وسطوة أخيها ، ودفعها للتمرد على واقعها تحت مفاهيم التمكين والجندر وهي لعمري وصفة استعمارية مستحدثة ابتدعتها غرف سوداء سرية تخطط منذ ألف عام لتفتيت هذه الأمة (!) والنيل من إسلامها ومقدساتها (!) ولكن هيهات فنحن هنا على الخطوط الأمامية نواجه تلك المؤامرة النجسة ، ونحرس الفضيلة في المجتمع المسلم .
في تغريدة له على تويتر كتب السيد حسن الدغيم وهو على مايبدو أحد حراس الفضيلة قائلا :
( حركات " نسونجية " لانسائية تستثمر في الخواصر الهشة وتجوس خلال الديار المستورة لتضرب التماسك المجتمعي مشاغلة الجماهير عن معركتها ضد الاستبداد ودافعة لها إلى معارك عدمية مع " الذكور " وتخفي وراء دعاوى التحرر أنيابا مصطكة وشفاها متلمظة على مواقع الثراء والنفوذ والطمع السلطوي ) (!) .
بطبيعة الحال يأتي ذاك الذي يمكن وصفه بالنعيق أكثر مما هو تغريد ، ضمن سياق السجال حول خطبة الشيخ الرفاعي ، وتأييده للمنحى التوصيفي والاتهامي العام الذي اختطه الصرح البابوي الإسلامي السوري في خطبة المسجد الكبير والذي يصم كل المنظمات النسوية والمجتمع المدني عموما بكونهم عملاء مجندين لخدمة اجندات غربية ... وحيث أني من ذوي الأسنان المصطكة ، فقد سمحت لنفسي أن أجوس في عقول هؤلاء لأتلمظ مواطن الحنوط والعفن الفكري الذي يعشش في جماجمهم وتلوكه ألسنتهم لتبصقه في وجوهنا عندما يمتطون المنابر .
لاتكمن المشكلة الأساس في مضمون تلك العظة بذاتها رغم ماتضمنته من امتهان للمرأة ولمنظمات المجتمع المدني بل في منهجية التفكير ومضامين الفكر الذي يخرج مثل تلك العظات ، وهو ذات الفكر الذي يؤمن أو يزعم أصحابه أنهم يمتلكون الحقيقة وأنهم حراس الفضيلة وورثة الأنبياء وبالتالي الأوصياء الالهيون الشرعيون على ضمائر الناس وإيمانها .
لا تنفصل عملية وضع حجر أساس المقر البابوي الاسلامي في اعزاز عن سياق العمل الاستباقي الاسلاموي الذي فرضته القوى الإسلامية على مسارات الثورة وأدواتها بدءا من العسكرة ومرورا بكل مجلس أو مرفق وضعت يدها عليه خلال عمليات ( تحرير ) الأحياء والمدن فأسست الهيئات الشرعية وأناطت بها وظيفة القضاء فنحت جانبا القانون الوضعي وفرضت تطبيق ( شرع الله ) وفق ما يفهمه ذاك " الشرعي " لهذا الشرع وتأويله له وصار لكل فصيل محكمة وشرع لله تقضي به ثم مالبثت أن أطلقت مشروعها بتأسيس معهد قضائي يستقطب أئمة وطلاب شريعة بنفس قدر استقطابه لحلاقين وقصابين أطلقوا لحية وحملوا سبحة ودلفوا هذا المعهد ليتخرجوا بعد أسبوع قضاة شرعيين يفصلون في حقوق الناس بنفس الطريقة التي يفصلون فيها بعض الرؤوس عن أجساد أصحابها إعمالا لشرع الله أيضا (!) .
ولا ينفصل ذلك أيضا عن السياق الذي جعل قادة عسكريين يطبقون ( شرع الله ) وأن يضعوا الديموقراطية تحت أقدامهم ويستبيحون دماء أخوة لهم في السلاح لأنهم يخالفونهم في فهمهم لشرع الله ... هو ذات الشرع الذي أخرجوا منه فتوى تبيح اقتتالهم وأخرى تبيح لهم خطف نشطاء حقوقيين مدنيين سبق أن ترافعوا تطوعا عنهم عندما زج بهم في السجون ، كل جريمتهم أنهم يقومون على توثيق الجرائم والانتهاكات .. وهو ذات الشرع الذي اجتهدوا فيه وقضى لهم فيما بعد أن يسلموا الغوطة وأهلها ليخرجوا منها ببضع ملايين من الدولارات قد ( غنموها ) فافتتحوا بها مطاعم ومحلات صيرفة وشركات تحويل أموال يستعينون فيها على ( شظف ) العيش في إسطنبول (!) .
وهو ذات السياق الذي جعل الديمقراطية شرك والحصول على سلاح من الأمريكان عمالة ، بينما يتوسل اليوم هؤلاء العمالة لدى الامريكان ... وهو نفس السياق الذي أباح خطف الأوربيين المناصرين لقضيتنا وإعادة ( بيعهم ) لدولهم بملايين الدولارات والطعن في خاصرة الثورة ...
هو السياق عينه اليوم الذي يغض الطرف عن لصوصا يرتكبون كل الجرائم والموبقات ويستبيحون أعراض الناس وأموالهم ومساكنهم ، لكنهم يصلّون (!) .
أزمتكم الحقيقية اليوم ياسيدي ليس في تمكين المرأة وحقوق النساء وقضايا الجندر .. وهي عناوين اتخذتموها لتستثيروا الغرائز البدائية لدى ذكورية أتباعكم المتورمة لتحرضوا فيهم عقيرة البطش والتهميش التي لا يملكون غيرها للتعبير عن فحولتهم المرتجاة ...
أزمتكم في جوهرها هي في وجود كيان اسمه المجتمع المدني ترونه ينزع عنكم سلطانكم على المجتمع ، ويفكك خطابكم المتهافت عن القيم التي لم تمنع أتباعكم ومريديكم من النهب والخطف وسلب الناس أموالها بالباطل ، ويقدم خطابا يحرض في الانسان وظيفة العقل ويمسح عنه الكثير من الغبار الفقهي السقيم المتراكم عبر قرون ليعيد للعقل دوره في طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها بعيدا عما سوقتموه من أفكار وقيم مجتمعية جعلتموها مسلمات لاتقبل التفنيد والنقاش والدحض وتقديم البدائل .
أزمتكم الحقيقية ياسيدي تكمن في تشكل كيان مواز اسمه المجتمع المدني صار يقف حائلا أمام بناء صرحكم البابوي لأنه يفنّد خطابكم ويحارب فكرة استلاب المجتمع وانتاج سلطة بابوية اسلاموية ترى في الحرية تفلتا وتمردا على القيم ، وترى في تمكين النساء من العلم وأدوات المعرفة والتنوير والحقوق هدما لأركان المجتمع ، ولا ترى عيبا في التضليل الخطابي و ترويج الأكاذيب لتدعيم رواية التفلت الأخلاقي رغم أن المؤمن لا يكذب (!) .
نهنئكم بوضع حجر أساس صرحكم البابوي الاسلاموي لكنا نبشركم أن سيبقى مجرد حجرا لا أساس له في المجتمع الذي تعلم كثيرا من محنته ، وخبر الناس بكافة تلاوينهم وخطاباتهم العلمانوية منها والاسلاموية ولم يعد ذلك الدرويش الذي يدور في حلقات الذكر وجلسات البخور كالمهرجين ، فلقد أدرك أن الحرية هي همسة الله في أذن آدم قبل أن يقول له كن .. فكان .