ليس "أبو عمشة" حالة طارئة على المجتمع السوري، على الأقل منذ تعطّل مؤقت الارتقاء؛ إثر تناطح العسكر واستيلائهم على السلطة ومقدرات بلدٍ كان يفترض له ألا يكون أقل في تطوره عن الكثير من الدول الأوروبية الحالية، لما كان يمتلكه من بنى تحتية وفوقية تؤهله لذلك.. وبطبيعة الحال ما نزال نحن نتحدث عن تلك اللحظة التي سبقت استباحة الدبابات شوارع دمشق، ليعلن بعض من الجهلة المتخلفين والكثير من الرعاع سيطرتهم على السلطة وإذاعة بيانهم الأول.
منذ الوحدة وتعميم تجربة الدولة الأمنية بدأ صداع المجتمع السوري، وأخذ جسده يعاني أعراض فيروس الاستبداد، لكن ظلت مناعته تقاوم إلى أن سطا البعث على السلطة قبل نصف قرن ونيّف، حيث بدأ زمن "أبو عمشة"، وبدأت مساع محمومة لتهشيم المجتمع السوري بدءاً بالبورجوازية السورية التي كان لها فضل الاستقلال والتأسيس، لينتشر بعدها "آباء عمشات" الفئات الاجتماعية الأخرى في بنية السلطة ومفاصلها، فصار (أبو عمشة) عضواً في فرع (الحزب)، و(أبو عمشة) ثان أمين شعبة، وثالث أمين حلقة، و(عمشات) مماثلة في الروابط الفلاحية أو في نقابة عمال اللحم بعجين وعش البلبل! أو عنصر أمن يتمنطق مسدساً ظاهراً للعيان في رسالة ترهيب للناس.
وتحت عنوان (الثورة) والكادحين (والإصلاح الزراعي) بدأت عملية حرث المجتمع وتقليب تربته الاجتماعية، وجعل عاليها سافلها وبالعكس، واقتلاع فئات كاملة من خلال مصادرة ثرواتها، وتأميم مصانعها وتقسيم ملكيتها الزراعية والتضييق عليها في سبل عيشها، حتى اضطرت لمغادرة البلد إيماناً منها باستحالة التعايش مع (البسطار العسكري)، وشيئاً فشيئاً بدأت تذوب الطبقة الوسطى؛ لانعدام دورها وفرصها، وتبدلت الدولة من دولة الحزب لدولة الطائفة، وبدأ الخط البياني بالانحدار المتسارع الذي ما يزال مستمراً حتى هذه اللحظة حيث وصلنا إلى القاع.
في عام 1988 عرض فيلم "زمن حاتم زهران" للمخرج محمد النجار، وتمثيل الراحل نور الشريف وصلاح السعدني و عدد من الممثلين الآخرين، وقد حاول المخرج أن يرصد حجم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع المصري عقب حرب أكتوبر 1973، وانطلاق مرحلة الانفتاح الاقتصادي حيث همّش الشباب الذي دفع من حياته سنوات طوال على الجبهة بانتظار لحظة العبور، وضحَّى الكثيرون منهم بأرواحهم، ومنهم شقيق حاتم زهران نفسه لتطهير أرض سيناء من الاحتلال، ليأتي بعدها غيلان المال والأعمال وتجار المبادئ والسياسة ويحصدوا الثمار ويتصدروا المشهد، وكان بطبيعة الحال حاتم زهران أحد أبرز تلك الوجوه القميئة التي تلبِّي شروط المرحلة، وتملك كل الاستعداد لتسفح شرفها على عتبات الثراء وصار شعار كل شيء مباح مادامت لديك القوة اللازمة لتحقيقه هو شعار المرحلة.
لا يختلف المشهد السوري الكارثي اليوم كثيراً عن ذاك المشهد السينمائي، كما لا يختلف زمن (حاتم زهران) عن زمن (أبو عمشة) ... فلكل زمان (دولة) وأبو عمشه!.