نشر موقع تلفزيون سوريا بتاريخ 6 آذار (مارس) 2021 مقالا للعقيد عبد الجبار العكيدي بعنوان (تضحيات المنشقين والعدالة الانتقالية) يأخذ فيه على المنظمات الحقوقية السورية العاملة مع بعض المنظمات الحقوقية الأوروبية على ملف مقاضاة من تتوفر أدلة وشهود وادعاءات بحقهم بسبب ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات ضد السوريين استنادا لمبدأ الولاية القضائية العالمية للمحاسبة عن جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية المنصوص عنها في القوانين الوطنية لبعض الدول الأوروبية، ويعتبر أن تلك المحاكمات والتي طالت بعض المنشقين عن النظام ستضع كافة المنشقين في خطر وتحت سيف المساءلة متخوفا من (تسييس ملف العدالة) وأنه مالم يتبع ذلك محاكمات لعناصر الشبيحة المنتشرين في أوروبا أيضا (فإن ذلك سيزيد من علامات الاستفهام حول مغزى ودلالات هذه القضية) (!).
لم يكتف العقيد العكيدي بالإطناب في مسألة الانشقاق وكيف أنه قرار تاريخي يرتب مسؤوليات ومخاطر جمّة وأن المنشقين تركوا ما كانوا (يرفلون)!! به من نعيم في سبيل دعم قضية الثورة، وهو في بعض ما جاء فيه لجهة المخاطر محق تماما ولكننا لا نحتاج في كل مرة للقول أن الإعلان عن موقف وطني والانحياز لحق الناس في الحرية لا يجوز عن يكون منّة يجب أن يحملها الناس في أعناقهم أبد الدهر بقدر ما هو موقف أخلاقي وقيمي وقانوني يلزم صاحبه أن لا يوجه سلاحه للمجتمع الذي ينتمي إليه فهو لم ينتم للمؤسسة العسكرية ليكون عضوا في ميليشيا تستبيح الناس وحيواتهم وحقوقهم بل ليحمي هؤلاء الناس ومطالبهم المحقة، وهذا الانحياز للناس موقف يحظى بالاحترام لكنه في كل الأحوال لا يمنح صاحبه مزية عن غيره أو يسبغ عليه قداسة وحصانة معنوية من النقد أو حصانة قانونية من المساءلة.
يحاول العقيد العكيدي في كل سطور مقاله التشكيك في هذا الجهد الحقوقي ويحاول إثارة دخان السياسة من حوله للتعمية عن حقائق يتعين الآن بسطها وتفنيدها خصوصا أنه يزعم (أن هناك الآلاف من الشبيحة والعناصر والقادة من تنظيم pkk المصنف كمنظمة إرهابية في أوروبا) وأن الكثير من اللاجئين والمنظمات الحقوقية قدمت أدلة بحق هؤلاء ولم تفتح قضية بحقهم(!) وهو زعم مضلل ويفتقر إلى المصداقية ونحن نتحداه أن يسمي شخصا أو منظمة قدمت أدلة وشهودا بحق أيا من هؤلاء للمنظمات العاملة على ملف التقاضي في أوروبا وتم إهمالها.
كان من المهم أن يحيط السيد العكيدي ببعض المعلومات قبل أن يتبنى موقفا مشككا وطاعنا بهذا المسار الحقوقي لمجرد أن بعض المتهمين في بعض الملفات هم من المنشقين، وأبرز هذه المعلومات التي نود ويتعين إحاطته وإحاطة الرأي العام السوري علما بها هي النقاط التالية:
أولاً: إن هذا المسار القضائي لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمسار العدالة الانتقالية – ولم يزعم أحدا ذلك – وهو ليس بديلا عنها. والتي نؤمن بضرورتها وحاجة المجتمع السوري إليها بعد حصول انتقال سياسي.
ثانياً: إن هذا المسار القضائي إنما هو مسعى حثيث من منظمات حقوقية سورية ودولية لمحاسبة من تتوفر إمكانية (قانونية – تقنية) لمحاسبتهم عما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات بحق السوريين بصرف النظر عن تموضعاتهم السياسية وانتماءاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية فالمعيار هنا متعلق بالجريمة وتوفر أدلة ارتكابها من قبل المتهم وشهود عليها ليس أكثر.
ثالثاً: إن أهمية هذا المسار برزت مع انسداد أفق إحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، كما أنه يجعل قضية المحاسبة والمساءلة حيّة ويفرض وجودها على المنابر الدولية وهو رسالة مهمة للمرتكبين والمنتهكين من أي جهة كانوا أنهم لن يفلتوا من المساءلة وأن ثقافة الإفلات من العقاب قد طويت صفحتها وأنهم لن يكونوا جزءا من المستقبل السوري.
رابعاً: إن مسار المحاكمات الجارية ليست كما يحاول العقيد العكيدي الزعم أنها موجهة ضد المنشقين، وإنما هي ضد متهمين بارتكاب جرائم وانتهاكات سواء كانوا منشقين أو ما يزالون على الضفة الأخرى، وكما هو معلوم أنه أقيمت عدة دعاوى في عدد من الدول الأوروبية بحق رموز من النظام السوري ففي ألمانيا وبناء على دعوى من نشطاء سوريين حرك النائب العام الألماني دعوى بحق جميل حسن وعلي مملوك وعبد السلام محمود وصدرت فيها مذكرات توقيف دولية بحق المتهمين ولم تنتقل الدعوى لطور المحاكمة بعد لأن القانون الألماني لا يجيز المحاكمات الغيابية وبالتالي لن ينتقل الملف لطور المحاكمة مالم يتم توقيفهم أو توقيف أحدهم وتسليمه للقضاء الألماني.
كما أقيمت دعاوى في النمسا وفي السويد وفي إسبانيا وكل المتهمين فيها ليسوا من الضباط المنشقين بل من عناصر تابعة للنظام ولا ننسى في هذا السياق دعوى آل دباغ في فرنسا وهي ضد رموز أمنية سورية أيضا، وكذلك هناك الآن دعوى في سويسرا ضد رفعت الأسد حول الجرائم التي ارتكبها في سوريا، وبالتالي من المشين الزعم أن هذا المسار القضائي يستهدف المنشقين عن النظام.
أما الدعوى المقامة بحق (إسلام علوش) فلم تحرك ضده لأنه منشق بل لأنه متهم بارتكاب جرائم تجنيد أطفال وإخفاء قسري وتعذيب وذلك خلال عمله في ميليشيا (جيش الإسلام) أما عن تعرضه للاعتداء بالضرب من قبل البوليس الفرنسي فتلك أولا ليست مسؤولية الجهة المدعية بل هي مسؤولية السلطات الفرنسية وهي التي تتحمل مسؤولية سلوك عناصرها الأمنية وثانيا كان يتعين على محاميه الذي قيل أنه هو من سرب صورة موكله أن يتقدم بشكوى أو دعوى باسم موكله ضد جهاز البوليس الذي ارتكب هذا الانتهاك وليس إلقاء عبء المسؤولية على الجهة المدعية والمتاجرة فيها بطريقة مشينة من قبل الميليشيا التابع لها.
خامساً: أما قضية أنور رسلان فهي ككل القضايا التي حركت ضد مرتكب جرائم وانتهاكات توفرت لدى جهات الادعاء أدلة وقرائن وشهود على ارتكابه لها وبالتالي فمحاكمته تتم على ماجنته يداه من جرائم قبل انشقاقه وليس لأنه منشق وهذا حق خالص للضحايا لا يجوز بأي حال مؤاخذتهم على اللجوء للقضاء طلبا للعدالة والتماسا للإنصاف تجاه معاناتهم.
أما قضية إياد غريب فلم تباشرها كدعوى أي جهة حقوقية بحقه، ولكن السلطات القضائية الألمانية وفي معرض عملها وتحقيقاتها في جريمة ما، إذا تبين لها وجود جرائم أخرى منسوبة لشخص أو أشخاص آخرين ليسوا ممن حركت الدعوى الأصلية بحقهم، فإنها ملزمة بموجب قانونها الوطني بتحريك الدعوى على هذا الشخص أو الأشخاص وهذا ما حصل مع إياد غريب في معرض إدلائه بإفادته وشهادته حيث تبين للسلطات أنه ضالع بجرائم مرتبطة بالجريمة التي تحقق بها فتم تحريك الدعوى العامة وحوكم وصدر بحقه حكم مخفف لأسباب وجيهة ارتأتها المحكمة.
ربما كان لابد من هذا التفصيل والتفنيد لندحض من خلاله كل الأباطيل التي أثيرت سواء في مقال العقيد العكيدي أو من قبل بعض الجهات كميليشيا جيش الإسلام والتي بدأت فرائصها ترتعد لكونها ترى أن سيف المساءلة والعدالة قد يطال رموزا أخرى فيها أو في قوى وميليشيات أخرى ممن اجتهدوا وأبدعوا - وتفوقوا في بعض الحالات على النظام المجرم - في ارتكاب الجرائم بحق السوريين.