(عن القدس العربي)
بعد عشرين عاما من انطلاقة منصة “فيسبوك” وإنستغرام وما تلاها من منصات أخرى (تويتر أو إكس، واتس أب، ويوتيوب، تيك توك، ماسنجر، تيلغرام) أصبحت هذه المنصات ساحة للتواصل الاجتماعي كوسائل إعلامية بديلة عن الوسائل التقليدية، تسنح للمستخدمين بالتواصل و”الدردشة”، وإرسال الرسائل، ولكن الأهم من ذلك أنها أيضا تحولت إلى ساحة صراع سياسي حول قضايا معينة وتمكنت من التأثير المباشر في الرأي العام وحشد المتابعين لتأييد قضية ما تشغل موطنا معينا كما حصل في الربيع العربي مثلا وقضايا دولية أخرى تهم العالم كجائحة كوفيد، وحرب أوكرانيا، والانحباس الحراري. لكن الحدث الأبرز الذي شغل العالم أجمع منذ عملية “طوفان الأقصى” يعد من أهم الأحداث السياسية والحربية التي كان لها أكبر صدى وتفاعلا على منصات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم أجمع خلال العقدين الماضيين.
وقد أظهر هذا الحدث العالمي أن اهتمامات مستخدمي وسائل التواصل انصبت على متابعة الحدث الذي هز قناعات ملايين البشر في “بروباغندا” دولة إسرائيل التي كانت تسوق نفسها كدولة مهددة أمنيا من جيرانها، وأنها مضطرة للدفاع عن نفسها، وأن “جيش الدفاع الإسرائيلي” الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، وأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية المتقدمة الحقيقية الوحيدة بين دول دكتاتورية متخلفة تناصبها العداء.. وأن وجودها في فلسطين هو وجود على الأرض التوراتية التي وعد الله بها شعب إسرائيل..
وقد روجت هذه الدعاية وسائل الإعلام الصهيونية في معظم الدول الغربية التي تناصر إسرائيل وتدافع عنها وتهاجم كل من ينتقدها بإخراج ورقة “معاداة السامية” التي تعتبرها تخص اليهود حصريا دون غيرهم من الشعوب السامية في المنطقة.
وما لم يكن تتوقعه دولة الاحتلال، وداعموها من الدول الغربية أن حرب إسرائيل على غزة ستنقلب ضدها، فأمام مشاهد قتل الأطفال والنساء، وتهجير الفلسطينيين وتجويعهم والدمار الممنهج للمشافي ودور العبادة وللمربعات السكنية للمدنيين، ولم تفرق بين الأهداف العسكرية والمدنية، بل إن هذا العدوان كان موجهاً للأهداف المدنية في ظل عجز الاحتلال الإسرائيلي عن ضرب المقاومة الفلسطينية التي بهرت العالم بتصديها لأقوى جيش في الشرق الأوسط بمعدات حربية لا تقارن مع جيش يمتلك كل آليات ووسائل الحرب الحديثة، واستطاعت أن تكبده خسائر فادحة في العتاد والأرواح، مما جعل مئات الملايين من شعوب العالم يخرج في مظاهرات تنديد بالهمجية والبربرية الإسرائيلية وتطالب بوقف إطلاق النار، وبعبارة أخرى لقد انقلب السحر على الساحر.
نقطة التحول
نقطة التأثير المباشر لوسائل التواصل أنها أصبحت إعلاما أفقيا تشارك فيه شرائح واسعة من الناس أنشطة إعلامية فيما بينها ضمن غرف ومجموعات “فيسبوكية” في مواجهة إعلام عمودي متسلط، أي تحولت إلى منصة للأصوات التي تمارس عليها من قبل وسائل إعلام رسمية أو امبراطوريات إعلامية خاصة “ديكتاتورية إعلامية” موجهة من طرف واحد فجاءت وسائل التواصل لتقدم مساحة لحرية الرأي والتعبير والمعارضة دون رقيب. لكن حرب غزة كشفت أن الديمقراطيات الغربية الليبرالية التي تعتبر أن وسائل الإعلام هي سلطة رابعة، وتضمن لها حرية الرأي والتعبير، أن هناك من يتحكم بها أو يوجهها، وتعاقب من يخالف توجهاتها، خاصة إذا تعلق الأمر بإسرائيل، فخلال الأشهر الأربعة من الحرب على غزة ظهر الوجه الحقيقي “للإعلام المتصهين” المتستر خلف حرية الصحافة والتعامل مع الحدث بمصداقية. فعلى وسائل الإعلام التقليدية (صحافة مكتوبة، إذاعة، تلفزيون)، ظهر التحيز بشكل فاضح لتبرير العدوان الإسرائيلي على غزة، بل أن بعضها تبنى أكاذيب إسرائيل الملفقة حول “عمليات مقاتلي حماس” للاغتصاب، وقطع رؤوس الأطفال”.
وشاهدنا تهجما فظا من قبل مذيعين على أشخاص تمت استضافتهم كالتي حصلت مع الدكتور مصطفى البرغوثي في قناة “الحوار” البريطانية، أو عندما تمت المطالبة من القناة نفسها بطرد المذيعة التي ناقشت عضو الكنيست الإسرائيلي الذي طالب بترحيل الفلسطينيين إلى كندا لأنها طرحت عليه أسئلة أفحمته بها، وكذلك الأمر بالنسبة لقناة “بي بي سي” التي تظاهر الآلاف أمام مقرها ولطخوا أبوابها بمادة تشبه الدم للتعبير عن دعم القناة للمزاعم الإسرائيلية في حربها على الفلسطينيين، وفي نسخة القناة “بي بي سي عربي” قامت بالتحقيق مع 4 صحافيين بسبب تغريدات مؤيدة للفلسطينيين، واستقال منها عدة صحافيين احتجاجا على الخط التحريري للقناة. قناة “إم إس إن بي سي” قامت بطرد ثلاثة من صحافييها لأنهم قدموا صورة مغايرة عن الحرب في غزة عن تلك التي تقدمها الوسائل الغربية المؤيدة لإسرائيل، وقامت صحيفة “الغارديان” بطرد رسام الكاريكاتور الشهير ستيف بل بعد 40 سنة من العمل مع الصحيفة لأنه رسم بنيامين نتنياهو كجزار في غزة تحت حجة “معاداته للسامية”، أما قناة “سكاي نيوز” المعروفة بانحيازها الكامل لإسرائيل قامت بتضليل حقائق كثيرة حول الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في غزة وخاصة في مدرسة للأونروا.
ولا تختلف قناة “سي إن إن” عن القنوات الأخرى في معالجتها للمحتوى المتعلق بحرب غزة وتحيزها للخطاب الإسرائيلي. كما قامت مواقع التواصل الاجتماعي بإزالة ملايين المنشورات وحظر آلاف الحسابات التي تبث أخبار حرب غزة، وتلقت الشركات الكبرى لوسائل التواصل الأمريكية (ميتا، إكس) تحذيرات أمريكية أوروبية بعقوبات قانونية إذا لم تحذف أي محتوى مؤيد لحركة “حماس” في منصاتها (فيس بوك، إنستاغرام، إكس) وقد تم حذف حوالي 800 ألف محتوى خلال أسبوع من منصة “فيسبوك”، وأنها حذفت أكثر من 500 ألف مقطع فيديو، وأغلقت 8 آلاف بث مباشر مرتبط بالصراع بين إسرائيل وحركة “حماس”، بعد أيام من تحذّير الاتحاد الأوروبي. وأعلنت منصة “إكس”، حذف مئات الحسابات التابعة لحركة “حماس”، وحذف أو تصنيف عشرات الآلاف من المحتويات منذ بداية الحرب، وصرحت شركة “ميتا” أنها تقوم بتقييم متى يمكن أن نعتبر كلمة “صيهوني” بمثابة خطاب كراهية كي توسع حظر مستخدميها.
انقلاب الرأي العام
ما يميز حرب غزة عن باقي الحروب العربية ـ الإسرائيلية إعلاميا أن الحروب السابقة كانت ” الآلة الإعلامية” الغربية بالمطلق تنحاز لإسرائيل، وكذلك الرأي العام الذي خلال عشرات السنين يخضع “لغسيل دماغ” للتعاطف مع الشعب اليهودي ضحية “الهولوكست” وأن العرب يريدون رمي اليهود في البحر، ضد أي عمل يهدد أمنه، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت أن الرأي العام العالمي راح يتغير بشكل واضح، ففي بداية الحرب كانت نسبة المؤيدين للطرفين تقريبا متعادلة، لكن الكفة أصبحت تميل لصالح الفلسطينيين مع فداحة الصور التي تبث عن الجرائم المرتكبة بحقهم، وأكدت استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة الإيكونوميست أن النسبة أصبحت 4 أضعاف لصالح الفلسطينيين، وأتضح ذلك عبر المظاهرات الحاشدة في جميع أنحاء العالم التي تطالب بوقف الحرب وإنصاف الفلسطينيين.
وقد لعبت منصتا “تلغرام” الروسية و”تيك توك” الصينية دورا كبيرا باستقطاب مئات الآلاف من المشاركين من المنصات الأخرى كونهما يحافظان على المحتوى دون رقابة أو حذف، رغم التحذيرات الأوروبية، وقالت القناة 12 الإسرائيلية إن 83 ٪ من%منشورات مواقع التواصل مؤيدة للفلسطينيين، و9٪ لصالح إسرائيل، ومقالات وسائل الإعلام الدولية في مجملها تعارض حرب إسرائيل على غزة.
ويمكن القول اليوم إن هناك حربا إعلامية على مواقع التواصل موازية للحرب العسكرية في غزة، وهذه الحرب الإعلامية يشارك فيها عشرات الملايين حول العالم هزمت وسائل الإعلام الرسمية الأوروبية أو الخاصة الموجهة، نصرة للشعب الفلسطيني الذين أيقظتهم الحرب على غزة أن إسرائيل ومنذ 75 سنة لم تتوقف عن ممارسة أبشع صور الاستعمار الحقيقي للأراضي الفلسطينية، وممارسة التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، والتي حاول الإعلام الغربي بشكل عام إخفائها أو تجميلها.
كاتب سوري