(عن القدس العربي)
الحروب ضد المسلمين السنة لم تتوقف عبر التاريخ بدء من الانفصام الشيعي بعد معركة صفين، ثم صعود الدولة الفاطمية، والتمرد القرمطي وسواه من الحركات الانفصالية الدينية لكن ورغم تعدد الملل والنحل، بقي الإسلام السني هو المسيطر بحكم الأكثرية، خاصة بعد بروز الدولة العثمانية التي أعادت الزخم للفتوحات الإسلامية في آسيا وأوروبا، وأخمدت حركات الأقليات لعدة قرون. لكن انحدار الإمبراطورية العثمانية وصعود الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وبريطانيا قلبت الموازين رأسا على عقب.
نابليون وحلم الإمبراطور
تعتبر حملة نابليون على مصر في العام 1798 بداية التدخل الأجنبي في العالم العربي الواقع تحت حكم السلطنة العثمانية، وإن كان الهدف المعلن هو قطع الطريق على بريطانيا لوصولها إلى درة مستعمراتها في الهند إلا أن الهدف غير المعلن كان بناء إمبراطورية فرنسية تشبه الإمبراطورية الرومانية، إذ كان نابليون يخطط الانطلاق من مصر ليحتل سوريا (الكبرى)، ومنها يتقدم إلى إسطنبول، لكن حلمه توقف عند أسوار عكا بفضل مقاومة أحمد باشا الجزار، ومرض جيشه بالطاعون. ومن غير المعروف أن نابليون قبل بلفور كان ينوي أن يقدم فلسطين هدية لليهود بعد أن حررهم في فرنسا في مؤتمر (السنهدرين) وهذه الفكرة التقطها الإنكليز فيما بعد. وقد فهم آل عثمان مرامي الفرنسيين فقاوموهم بدعم المماليك في مصر، وإرسال السوري سليمان الحلبي لاغتيال قائد الجيش الفرنسي في مصر الجنرال كليبر. لكن السلطنة العثمانية رغم الخطر الداهم استمرت في انحدارها إلى أن سقطت بعد الحرب العالمية الأولى وتم اقتسام تركة الرجل المريض بين الدولتين العظميين آنذاك: فرنسا وبريطانيا.
الخطأ العربي التاريخي
ارتكب الشريف حسين خطأ تاريخيا بتحالفه مع الغرب (الحلفاء) ضد السلطنة العثمانية (أي الخلافة الإسلامية)، بوعود عرقوبية بإنشاء المملكة العربية التي تضم بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، لكن الوعود تحولت إلى ثلاث اتفاقيات سرية نعاني منها إلى اليوم: وعد بلفور، واحتلال فلسطين، ومعاهدة سايكس بيكو وتقسيم بلاد الشام، ومؤتمر سان ريمو الذي شرع الانتداب. فمن نتائجها إنشاء دولة اليهود من قبل بريطانيا على حساب الفلسطينيين (بأكثرية إسلام سنة)، قيام فرنسا إنشاء دولة مسيحية (بقيادة مارونية)، ثم دعم الأقليات وخاصة العلويين والمسيحيين في سوريا، بعد أن حاول الجنرال هنري غورو تقسيم سوريا إلى خمس جمهوريات منها دولة للعلويين، ودولة للدروز، لكنها فشلت.
ألم يكن من الأجدى أن يقف العرب على الحياد بين السلطنة العثمانية (ولو أنهم كانوا يريدون التحرر منها) والحلفاء لحفظ ماء الوجه على أقل تقدير، وعدم الوقوع في الخديعة الكبرى، وعدم وصم العرب من قبل الأتراك بالخونة والعملاء.
وقد أثبت التاريخ أن العرب هم من احتاجوا تركيا التي تدافع اليوم عن الإسلام السني والدول العربية أكثر من أي دولة أخرى (لنتذكر موقف السلطان عبد الحميد من طلب هرتزل بيع فلسطين له مقابل بيت مال)، وهم يحجون إليها جماعات ووحدانا بعد أن أصبحت قوة إقليمية من الصعب عدم التعامل معها، خاصة وأن إيران المتمددة شيعيا تهدد المنطقة ككل بهيمنتها.
أمريكا ولعبة الأقليات
بعد الدور الفرنسي البريطاني جاء دور أمريكا التي استخدمت المسلمين السنة في حربها ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (طالبان والقاعدة وسواهما من الفصائل المحاربة) في ثمانينيات القرن الماضي، ثم انقلبت ضدهم بعد هزيمته، فمن وصفهم “بالمجاهدين” خلال الحرب، إلى وصفهم “بالإرهابيين” بعد الحرب ومحاربتهم لمدة عقدين من الزمن قبل ان تنسحب بدورها وتعترف بالأمر الواقع.
كان انسحاب الاتحاد السوفييتي في العام 1989 قد تزامن مع قيام الثورة الإسلامية في إيران، وهنا أيضا قامت أمريكا باستخدام نظام صدام حسين ضد ثورة الشيعة بقيادة الخميني في حرب مدمرة دامت ثماني سنوات ثم انقلبت عليه بدعمها للقوى الشيعية العراقية، والأكراد العراقيين فاتحة الباب على مصراعيه لإيران للهيمنة على العراق بإضعاف المكون السني وإطلاق سياسة التشيع والعمل على استكمال خطة بناء “القوس الشيعي” من طهران لبيروت مرورا في بغداد ودمشق. وقد تم لها ذلك بوجود نظام حافظ الأسد (العلوي) في سوريا المتحالف معها ومع أمريكا في حربيهما ضد نظام صدام حسين، واكتملت الهيمنة “الشيعية” باستغاثة الوريث بشار الأسد بالخامنئي الذي سرعان ما أرسل كل الميليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية والإيرانية وحتى حزب الله اللبناني لإنقاذ نظامه من السقوط، ومعه انقاذ “القوس الشيعي”
نظام الأسد ومعاداة السنة
استمر بشار الأسد على نهج أبيه الذي أعلن الحرب على السنة في سوريا خلال سبعينيات القرن الماضي والذي ارتكب بحقهم مجازر مروعة في سبعينيات القرن الماضي انتهت بالمجزرة الكبرى في حماة في العام 1982، إذ فاق الوريث أبيه في الإمعان بقتل السنة وتهجيرهم لأنهم وحدهم يشكلون الخطر على نظامه وانتفضوا ضده.
واليوم يسير في نهج طائفي واللعب على الأديان بهدف واحد هو القضاء على السنة. صحيفة “إيكونوميست” نشرت تقريرا قالت فيه إن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، يحاول استثمار الأديان الأخرى غير الإسلام السني للمساعدة في إنهاء عزلته.
وظهرت سلسلة من المراكز التي تعمل مجانا، وسر نجاحها هو أن الرئيس بشار الأسد يدعمها وتقول الصحيفة: “على مدى حكم عائلة الأسد، تحالفت طائفتها العلوية مع عدد من الأقليات الدينية لتقوية نظامها ضد الغالبية السنية، لكن النظام في الفترة الأخيرة ساعد جماعات وطوائف دينية أخرى لبناء جذور لها، فسمح للمسيحيين الإنجيليين بفتح بيوت ككنائس، يتمكن فيها المسلمون الذين تركوا دينهم من العبادة. ويأمل الأسد من هذا “التدفق الديني تكبير قاعدة نظام الأقلية، وإنهاء وضعه المنبوذ حول العالم”
ورغم مراقبة الأجهزة الأمنية لهذه النشاطات، إلا أن الأسد بارك التعددية الدينية، وتم افتتاح كلية كاثوليكية في دمشق في العام 2021، وفي بعض المرات يقوم هو وزوجته بالذهاب إلى الكنيسة، ويقول الأسقف دانيال، وهو أسترالي التقى الأسد: “أظهر لنا روح الحب لكل الأديان، وقال إنه يريد إعادة بناء الكنيسة في الشرق الأوسط”. بل وأرسل الأسد مسؤوليه لمقابلة اليهود السوريين في أمريكا، وطلب مساعدتهم لإعادة بناء كنيس يهودي في حلب، شمال سوريا. وأرسل تعازيه في عام 2021، بعد وفاة الحاخام الأكبر لسوريا أبراهام حمرا في إسرائيل. وقال مبعوث بين الأسد واليهود السوريين: “العلاقات اليهودية هي أولوية له”. وهكذا يبدو المشهد قاتما في منطقة تجلس على فوهة بركان تتدخل فيها كل القوى العالمية والإقليمية وكل قوة لها من يساند مكوناتها الطائفية والدينية.
كاتب سوري