قطر والتغريد خارج السرب

علم دولة قطر
علم دولة قطر

( عن القدس العربي )

نجحت قطر خلال ربع القرن الماضي في تحقيق مجموعة من الإنجازات جعلت من الدولة الصغيرة في حجمها كبيرة في موقعها الدولي، وربما كان هذا سببا أساسياً في خلافاتها مع بعض الدول العربية.
فقطر نجحت في تشييد بنى تحتية وصروح معمارية فذة جعلت من الدوحة مدينة عصرية بكل معنى الكلمة، وتمكنت بحنكة وذكاء استثمار أموال الغاز والنفط في مشاريع واستثمارات اقتصادية متينة، تضمن لها عائدات مالية كبيرة. وأبهرت العالم بتنظيم كأس العالم الكروي الذي كان عرساً كروياً عالمياً وضع قطر على الخريطة العالمية كدولة لديها قدرة تنظيمية كأي دولة كبرى.

الحضور الإعلامي
لكن الإنجاز الأكبر بنظري هو الحضور الإعلامي الكبير عربياً ودولياً، فالإنجاز المعماري تقدمت به أكثر من دولة خليجية، لكنها لم تتمكن من بناء منظومة إعلامية تنافس الحضور الإعلامي القطري بقنواته المتعددة وعلى رأسها قناة “الجزيرة” وما تتميز به هذه القناة هو أنها تجرأت في التغريد خارج السرب الإعلامي العربي في إفساح المجال للمعارضات العربية التعبير عن نفسها ضمن شعار الرأي والرأي الآخر، وهذا ما تسبب بتوتر علاقات قطر مع أكثر من دولة عربية، اعتبرت استضافة معارضاتها على شاشة الجزيرة تدخلا ً في شؤونها الداخلية، ومنها من أغلق مكاتب الجزيرة واعتقل مراسليها. ثم إن قطر ورغم موقعها المحاصر من الدول المحيطة بها تمكنت من انتهاج سياسة خارجية مستقلة حكيمة تجعلها في معزل عن هزات سياسية مفتعلة كما حصل في الحصار الذي ضرب عليها من قبل السعودية، الإمارات، البحرين، ومصر في الخامس من حزيران/يونيو 2017، كون هذه السياسة ربما تعارضت مع سياسات جيرانها في دول مجلس التعاون، والتي اتهمتها في دعم الجماعات المتطرفة والإرهابية، وإقامة علاقات وثيقة مع إيران، وتقويض أمن واستقرار دول الخليج، واستخدام الجزيرة كأداة دعائية. ووضعت قائمة مطالب على قطر تنفيذها في غضون عشرة أيام من أجل إنهاء المقاطعة.
ومن المطالب: قطع العلاقات مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، وإنهاء الدعم والتمويل للجماعات الإرهابية، ودفع تعويضات للدول المتضررة، وإنهاء أي اتصال مع جماعات المعارضة في الدول العربية. (خلال هذه الأزمة وقفت الإدارة الأمريكية إلى جانب قطر باعتبارها حليفاً استراتيجياً من خارج حلف “الناتو” وهي صفة لم تمنح سوى للكويت في منطقة الخليج العربي) وخاصة فيما يتعلق في العلاقات مع إيران ومخاوف دول المقاطعة من علاقات قطر الوثيقة، وعودة لتطبيع علاقاتها الدبلوماسية معها التي اعتبرتها دول خليجية على أنها تغريد خارج السرب، حيث توجت هذه العلاقات بزيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لطهران في أيار/مايو 2022 (والملفت للنظر أن السعودية قامت بدورها بتطبيع علاقاتها مع إيران مؤخراً للخروج من أوحال اليمن بوساطة صينية أغضبت الإدارة الأمريكية وأرسلت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي آي أيه وليام بيرنز بزيارة للرياض للتعبير عن ذلك).

وتأجج الموقف أيضا بعد تغطية قطر لثورات الربيع العربي التي كانت تؤيد بوضوح الانتفاضات الشعبية على عكس الدول التي تبنت الثورة المضادة منذ البداية وسعت جاهدة لإفشالها. في أيلول/سبتمبر تم الإعلان عن اتفاقيات إبراهيم للسلام بين كل من الإمارات والبحرين ودولة الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية، هذه الاتفاقية لم تحظ برضى بعض الدول العربية والتي لم تفصح عن رأيها صراحة ومنها من التزم الصمت، بينما صرحت قطر على لسان نائب رئيس الوزراء و وزير الخارجية القطري (حالياً يتولى منصب رئيس الوزراء) محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تقول: “إن اتفاقية إبراهيم لا تتلاءم مع سياسة الدوحة لأنها لا تقدم أي أفق لإنهاء الاحتلال، ولا يمكن التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل ما دام الاحتلال قائماً.. وحالياً لم نشهد السلوك والموقف المناسبين من إسرائيل للتوصل لحل سلمي مع الفلسطينيين، وهذا هو جوهر المشكل بين الدول العربية وإسرائيل، وهو احتلال الأراضي الفلسطينية، وطالما لا يوجد أي آفاق لإنهاء الاحتلال والتوصل لحل عادل لا أعتقد أن قطر ستتخذ هذه الخطوة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل” هذا الموقف القطري الثابت تجاه فلسطين ودعمها للحراك الفلسطيني يصطدم مع مواقف الدول المطبعة مع دولة الاحتلال ولا سيما في صلب مجلس التعاون الخليجي.

الموقف من النظام السوري
على ضوء التطورات الأخيرة فيما يخص التطبيع مع النظام السوري يبرز موقف قطر كتغريد خارج سرب الدول المطبعة، وعلى رأسها الإمارات والسعودية والبحرين وعمان، ففي الوقت الذي تتحضر فيه السعودية لاستقبال مؤتمر القمة العربية، وتنوي دعوة رأس النظام السوري بشار الأسد كخطوة للتطبيع مع النظام وعودته إلى حضن الجامعة العربية، تتمسك قطر في موقفها الثابت من النظام السوري وقد عبرت عنه على لسان المتحدث بإسم الخارجية القطرية ماجد بن محمد الأنصاري “الموقف القطري ثابت، فلا يوجد تطبيع مع هذا النظام حتى تزول الأسباب التي دعت لمقاطعته، وأن “دولة قطر تتعامل مع هذه القضية باعتبارها من أولويات القضايا العربية، لذلك فإن الإجماع العربي فيها محل اهتمام، وحتى يتوافر هذا الإجماع الذي يأتي نتيجة تطورات إيجابية على الساحة السورية لا نراها ماثلة أمامنا، ونعتقد أنه لن يكون هناك أي تغير من الموقف القطري، وموقفنا واضح وثابت ولا يتأثر بما يدور في المشهد ما لم توجد تطورات حقيقية داخل سوريا بشكل يرضي تطلعات الشعب السوري”. الموقف القطري من الثورة السورية كان منذ البداية محل خلاف مع أكثر من دولة خليجية وعربية، إذ اشتبكت المواقف بين قطر والسعودية على الأراضي السورية بصراع مسلح بالوكالة بين فصيل جيش الإسلام المدعوم من السعودية التي كانت ترغب بقوة إسقاط النظام السوري (نشير هنا إلى أن النظام ولوصم الثورة السورية السلمية بالإرهاب أفرج عن كل الإسلاميين في السجون السورية ومنها زهران علوش الذي ترأس جيش الإسلام وتم اغتياله فيما بعد بظروف غامضة، واحتل أخوه محمد علوش منصب كبير المفاوضين في لجنة المفاوضات العليا قبل أن يصبح مستثمراً في شركات ومطاعم في تركيا)، وبين فيلق الرحمن المدعوم من قبل قطر.
وكان النظام يترنح تحت ضربات المعارضة التي كانت على بعد بضعة كيلومترات من القصر الجمهوري، وكان قاب قوسين أو أدنى من السقوط قبل أن يستجير بروسيا التي لعبت دوراً كبيراً في القضاء على الفصائل المسلحة وحصرها في منطقة إدلب، وتحرير أجزاء كبيرة من الأراضي السورية باستخدام سياسة الأرض المحروقة، والأسلحة الكيميائية من قبل النظام التي اعتبرتها أكثر منظمة دولية وحقوق الإنسان جرائم حرب وضد الإنسانية، واعتبر الائتلاف الوطني للمعارضة السورية التطبيع مع نظام السوري، الذي اتبع سياسة القتل والتهجير ضد الشعب السوري أن يكون مصدر أمن واستقرار، وإن دعوته للجامعة العربية تصب في مصلحة نظام طهران وليس أبداً في مصلحة العرب، إن دعم الشعب السوري ضد قاتليه ومهجّريه من قبل الأشقاء والأصدقاء في كل العالم هو مسؤولية أخلاقية وإنسانية.