(عن القدس العربي)
في موقف أحرج القيادة التركية وجعلها تلتزم الصمت عن التعليق، أو اتخاذ أي موقف واضح، صرح رئيس النظام السوري أن لقاءه الذي كان مزمعا عقده مع الرئيس التركي رجب طيب أرودغان (بعد لقاءات تمهيدية بين نواب وزراء خارجية تركيا، وروسيا، وإيران، والنظام السوري، ثم لقاء وزراء الخارجية الذين سيحددون موعد اللقاء) لن يعقد حتى تحصل دمشق على الضمانات، ومنها جدولة انسحاب القوات التركية من سوريا، وقال الأسد: “إذا تحققت الشروط وهي الانسحاب قد يكون هناك لقاء اليوم، أو ربما غداً، فالتوقيت ليس مشكلة، لكن اللقاء لن يكون قبل تحقق الشروط” معتبراً أن “هدف أردوغان (من التقارب) هو الانتخابات الرئاسية. أما في سوريا فالأولوية هي انسحاب القوات التركية”.
التطورات الأخيرة
ويبدو أن هذا الموقف الذي جاء مفاجئا خلال لقاء الأسد بالرئيس فلاديمير بوتين الأخير في موسكو جاء على ضوء التطورات الأخيرة التي وقعت في سوريا وتركيا بعد الزلزال المدمر، الذي أعطى لبشار الأسد جرعة أوكسجين بانفتاح دول عربية على النظام، ووصول المساعدات الدولية من ناحية، والمراهنة ربما على سقوط أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستجري في أيار/مايو المقبل، بعد اتفاق تحالف المعارضة التركية على ترشيح كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، مرشحا في الانتخابات الرئاسية.
وفي حال تغير القيادة التركية فإن كثيرا من الأمور ستطرأ عليها تغيرات حسب تطلعات المعارضة التركية وبرامجها الانتخابية، خاصة في ما يتعلق في العلاقات مع النظام السوري، ومسألة اللاجئين السوريين في تركيا، وهذا ما يراهن عليه الأسد، فالمسألة لا تتطلب سوى صبر شهرين لتحديد المواقف بوضوح أكبر، فالأسد يفضل من ناحيته التعامل مع كليتشدار، عن أن يقابل أردوغان الذي دعم المعارضة السورية، ودعا لإسقاط النظام، وكان يصفه بـ”إرهابي”، وقال “إن من المستحيل مواصلة مساعي السلام السورية في وجوده.. نحن لا نعتبر مطلقاً أن قتل الشعب السوري بالدبابات والمدافع عملٌ إنسانيّ، ووجه كلامه للأسد قائلا: “تستطيع أن تبقى في السلطة بالدبابات والمدافع فقط لفترة معينة ليس إلا، وسيأتي اليوم الذي سترحل فيه أنت أيضاً”. بينما تتخذ المعارضة التركية موقفا يتوافق مع تطلعات الأسد، فحسب “صحيفة تركيا” فإن حزب الشعب الجمهوري بعث رسالة لرئيس النظام السوري يقول فيها: “في ظل حكمنا، ستتم تلبية جميع مطالب الإدارة السورية، بما في ذلك التعويض، ونتعهد بسحب جميع القوات من الأراضي السورية بما في ذلك إدلب”. ومن المعروف أن العلاقات التركية السورية لم تكن يوما ودية، وكادت أن تصل أكثر من مرة إلى حد المواجهات العسكرية.
قرن من التقلبات
لم يتوقع المماليك الذين كانوا يسيطرون على سوريا، أن فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453، أن السلطان سليم الأول سيهزم جيش قنصوة الغوري من دون قتال في معركة مرج دابق في عام 1516، لتصبح سوريا (الكبرى) تحت جناح السلطنة العثمانية، وتستمر في سيطرتها لغاية سقوط السلطان عبد الحميد الثاني (آخر السلاطين الشرعيين) قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وبعد قيام مصطفى كمال (أتاتورك) بتأسيس الجمهورية وإنهاء الخلافة، لم ينس خيانة العرب لتركيا، خاصة سوريا التي انضمت إلى قوات الشريف حسين الذي أعلن الحرب على السلطنة بالتحاقه بجيوش الحلفاء، بعد وعود خلبية من بريطانيا بتأسيس مملكة عربية بقيادته. وكان لقرار فرنسا، التي سيطرت على سوريا بصك انتداب من عصبة الأمم، بسلخ لواء اسكندرون من سوريا، وإلحاقه بتركيا في عام 1939 مقابل عدم مشاركتها في الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا، كما فعلت الحرب العالمية الأولى، أكبر الأثر في تدهور العلاقات بين سوريا وتركيا، خاصة بعد الاستقلال عام 1946. إذ كانت الحكومات المتعاقبة في سوريا تحيي سنويا ذكرى سلب اللواء، وتطالب بتحريره من الاستعمار التركي. وازدادت حدة التوتر بين البلدين في عام 1949 بعد اعتراف تركيا كأول دولة مسلمة، بدولة إسرائيل، وبنت معها علاقات وطيدة على مستويات مختلفة، خاصة الأمنية والعسكرية، التي أقلقت الحكومات السورية. وتدهورت العلاقات أكثر بانضمام تركيا إلى “حلف بغداد” المعادي لمصر الذي كانت تقوده بريطانيا في عهد الوحدة المصرية السورية (1958ـ1961).
وتفاقمت الأزمة أكثر مع انقلاب حزب البعث في آذار/مارس 1963، على خلفية اقتسام مياه نهر الفرات، بعد أن بنت تركيا سدودا عديدة عليه وانخفاض منسوب المياه في سوريا، ثم استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سوريا واتخاذ موقف معاد صريح مع تركيا، بعد أن سمح لحزب العمال الكردستاني (بي كي كي) المصنف إرهابيا في تركيا وزعيمه عبد الله أوجلان بدخول سوريا وتسهيل بناء معسكرات تدريب لأعضائه، وقد استمرت إقامة أوجلان في دمشق والبقاع اللبناني الذي كان تحت سيطرة سوريا من عام 1979 ولغاية 1999، واضطر الأسد بعد تهديد تركيا بحرب شعواء ضد النظام السوري إلى إخراج أوجلان من سوريا، وتم اعتقاله وأودع في السجن في تركيا، وكان هذا بموجب اتفاقية أضنة، التي تم توقيعها بين تركيا وسوريا في 20 تشرين الأول/أكتوبر (وبقيت طي الكتمان وأفشى سرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد اندلاع الثورة السورية) التي تنص على: تطبيع العلاقات بين البلدين، والتزام سوريا على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، بعدم السماح بأي نشاط ينطلق من أراضيها بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا، ولا تسمح سوريا بتوريد الأسلحة والمواد اللوجستية والدعم المالي والترويجي لأنشطة حزب العمال الكردستاني على أراضيها، ولا تسمح لأعضائه باستخدام أراضيها للعبور إلى دولة ثالثة. وأن الخلافات الحدودية بين الطرفين تعتبر منتهية، (أي لا مطالبة بلواء اسكندرون بعد اليوم). وهذه النقطة تحديدا ما أراد حافظ الأسد ووريثه بشار أن تبقى طي الكتمان على الشعب السوري، الذي تفاجأ أن ذكرى لواء اسكندرون ألغيت من أجندة النظام البعثي ـ الأسدي، (كالجولان السوري المحتل من قبل إسرائيل الذي لم نعد نسمع أي تصريح بالمطالبة به بعد فضيحة تسليمه في حرب 67 من دون قتال.) وجاء في بند أخير في الاتفاقية إن أي إخفاق من الجانب السوري في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية بعمق 5 كم. وهذا ما تستند إليه تركيا في وجود قواتها على الأرض السورية، وعلى اتفاق سوتشي المبرم في عام 2019 مع روسيا وإيران، بالسماح لتركيا بالتوغل في الأراضي السورية بعمق 30 كم على طول الحدود السورية التركية. واليوم فإن أردوغان الذي ينوي تطبيع علاقاته مع الأسد يعول على التزام النظام السوري بإنهاء قوات قسد وعودة قواته في السيطرة على مناطق الحكم الذاتي التي توجد فيها قوات أمريكية، وهذه معضلة أخرى يصطدم فيها الجانبان حتى لو تحقق الحب بالإكراه.
*
كاتب سوري