عقدٌ مضى على أول صيحة: "الشعب يريد إسقاط النظام" في سورية، بعد أن وصلت الشرارة التونسية إلى دمشق في الخامس عشر من آذار/ مارس، عام 2011م في وقفة احتجاجية أمام وزارة الداخلية. نظر الحاكم بأمره إلى الأمر شزر العجب، من ربيع جاءه عجولاً يختال عبوساً، من بائع خضار أحرق نفسه قهراً، وأضرم النار في هشيم أنظمةٍ روضت شعوبها أن يمهروا في طاعتهم، ويقدموا آيات الخنوع والولاء، فأمر بأول مجزرة في درعا أمام المسجد العمري في الثامن عشر من آذار/مارس، علَّ من رفع صوته عالياً يتعظ. لكن الشعب الذي يخضع لصوت انبثق من شرايينه لم يتعظ. فجّرها ثورة لا عودة عنها. بَتَرَ حبل الخوف المسيطر منذ سنين، وأطلقت الحناجر: "يا درعا نحن معك للموت". اتهم الحاكم بأمره الثورة بما ليس بها. وصَمَ المحتجين المطالبين بالحرية من نظام جثم على صدر سورية، ككابوس لا يريم منذ أربعة عقود، بالإرهاب. وظهرت علامات الإفك المُورَّى خلف هذه المزاعم: اقتلوا، اسفكوا دم كل من فغرَ فاهاً ونادى: "سورية بدها حرية" فكلمة حرية ليست في قواميسنا، ولن ندعها تدخلها. حصحص الحق، تبين أن الثورة لم تقده من قبل أو من دبر، لأنها كانت تهلل عالياً كحجاج أمام حرم الحرية: "سلمية، سلمية". كان الشعب يريد أن يقتلع إسفيناً دُقَّ في ظهر سورية ولم يقلع من الحسكة إلى سعسع. أن يقود سورية، التي فيها عبير من الأزل، وعبق معتق قبل ولادة التاريخ، وشواهد أنها كانت أموية سيدة الدنيا من حوافي الصين، إلى حواشي فرنسا، إلى الخلاص من نظام الفساد، والطائفية، والقمع، والتسلط، وجملكية الأسد إلى الأبد.
رقصت رياح الثورة رقصة مجنونة، وكان لها حملات مشهودة، عندما بدأ الفجر يفتح كوة في الغبش المخيم على ست الدنيا منذ عقود خمسة مريرة، ران عليها الظلام. وكما تدل الأسارير عن السريرة، لبس النظام وجه الإجرام، وكشف المنظور عن الخبيء. لاحت في عينيه نظرات الغدر، وأظهر علامات المتعطش للدماء، وانغلق وجهه مثل أحاجي العرافين والمشعوذين، الرياح التي لا تشتهيها الثورة هبت. ولم يعد أحد ينتظر من وجه لم ير فيه السوريون سوى المصائب، والمباكي، والدموع. نفخ النظام في الصور فانتشرت شبيحته، كفطر سام في شريعة الغاب. الأفاعي خلعت إهابها وأبرزت في تقلبها أنياب العطب، العقارب رفعت عقيرة أذيالها لتنفث سمومها، وكشّرت الذئاب عن أنيابها وعوت، والكل تجهز للانقضاض على كل من تقع عليه أيديهم كفريسة تساق إلى أقبية التعذيب، أو تقتل في المكان وتداس. سنة تهل، وأخرى تفل، لم نَعُدْ نَعُدُّ أيام المذابح فيها. قضى مئات الآلاف في أقبية الجلاوذة تحت التعذيب، وذهب آخرون في نزهات داخلية يزورون حياتهم قبل الرحيل، قبل تسلل الروح المغتالة من الضلوع لتزدحم بها السماء، ولا أحد يرنو إليها صاعدة، سوى قمر فضي له عين على المذابح، ونجم شفه الحزن فبكا على أطفال شهداء السارين، والخردل، والكلور. شباب ضحوا بحياتهم لتحيا سورية، وتنفض عنها أكفان الذل والهوان وكم الأفواه، وتنبثق من رماد سنين القهر كطائر الفينيق. نصب الأحياء على أجداث شهدائهم شواهد من حجارة في أرض تيه، ذرفت مدامعهم بسخاء دمعاً فاض عن كل مدمع، على أرواحهم الصاعدة إلى الجنة ممهورة بدمائهم كشهداء الثورة. تركوا فلذات أكبادهم رفاتاً ورحلوا. مارقدوا طويلاً فجاءهم شبيحة الحقد الأسود ينبشونهم من رقادهم ويحرقون رفاتهم. لم تبق مدينة، أو قرية لم تُمطَر بوابل براميل الموت والخراب: القلمون، حمص، حماة، حلب، الرقة، عامودا، دير الزور، إدلب، الباب، جسر الشغور، درعا.. وأسلحة الكيمياء: في الغوطة، ودوما، وخان شيخون، حتى العصافير لم ترجع صاخبة إلى أشجارها، لجأت إلى بلاد أخرى مع اللاجئين. قبٌل الناس جدران بيوتهم وهجروا في تغريبة لا ينساها التاريخ الشاهد، سطروا حكايات صراع مع النوء ومع رياح تزفزف في خيامهم. موج مملكة الماء ابتلع منهم ما ابتلع، حفر لهم قبوراً من مياه مالحة، وما زلنا نذكر إيلان، يا حبيبي يا إيلان، لم تكمل رحل الليل البحرية مع أخيك وأبويك، وارتميت نائماً على شاطئ البُعد كمئات مثلك. الغرب سيد العالم صفَقَ الباب في وجهنا بصفاقة، ولم تهتز للكون شعرة. نجا الحاكم بأمره بعد أن كان على شفا هاوية، وغذ في الهرولة إلى من شابهوه. فكثرت الأعلام المرفرفة طربا فوق تراب الوطن، ومياهه الدافئة التي لم تكن حتى تحلم بها. ومرّت السكين في جسده المثخن بالجراح. عشر سنوات مرّت بمرارة، عشر سنوات عجاف جداً، أوصل الحاكم بأمره السوريين إلى حافة الجوع، والحلم برغيف ساخن، وأربعة جدران تقيه القر والحر. لم يتبق له إلا أن ينزع عنهم هويتهم، وينتزع منهم أملاكهم. ويمنع عنهم أحلامهم. اليوم ينشر صوره الضاحكة على الخراب، ويترشح لسبع سنوات عجاف أخر، والثورة لم تخمد جذوتها بعد رغم الدم النافر من الجرح كالرمح، فالشعب الجائع مازال يردد: "الشعب يريد إسقاط النظام".