رؤية في شرعية ومشروعية زواج المسلمة من كتابي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

ليست رسالات السماء أصفادا أرسلها الخالق ليقيد بها معصمي الإنسان، لأنه لا يريدهم عبيدا له منصاعون، وإنما عبادا قادرون على ممارسة حرية الاختيار بين طاعته ومعصيته. 

 وهذي الرسالات بالطبع ليست أيضا تلك المتاهة المعقدة التي رسمها لنا كهنة المعابد وأسموها فقها، وأدخلوا الناس بها ثم زعموا أن خريطة طريق الخروج من تلك المتاهة معهم وأننا سنبقى أسرى تلك المتاهة مالم نتبعهم ونسلك سبلهم.

 وهي بالقطع ليست طلاسم ولوغاريتمات وخوارزميات يصعب فهمها وفك رموزها وشيفرتها، لأنها خطاب الله للعقل الإنساني، ويأبى الله تعالى أن يخاطب البشر بما لا يعقلوه ولا يفهموه ثم يسائلهم عما لم يلتزموا به من تعاليم وأوامر لم يفهموا كنهها ومرماها.

رسالة الله ليست لقمع العقل وتأميم الفكر.. بل هي دعوة لعموم البشر للتفكر والتدبر في حيواتهم وشؤونها ووظيفتهم فيها مستلهمين سلوكهم وسبل معاشهم وعيشهم من صراطها القويم المستقيم.

ضبط المحرمات وهي محدودة ومعدودة، وتنظيم ممارسة الحلالات وهي واسعة ومديدة، وإقرار التعبديات وهي شأن خاص بين خالق ومخلوق هذه ببساطة محتوى رسالة الله للبشر.

هي أقل تعقيدا، وأبسط كثيرا مما يحاول كهنة الفقه تعقيده وتضييق السبل على الناس باختراع محرّمات بلا سند من كتاب الله.

وفي هذا السياق يأتي (تحريمهم) لزواج المرأة المسلمة من كتابي دون سند قرآني بهذا التحريم المزعوم مع قناعتنا الراسخة وإيماننا الخالص أن التحريم خاصية يختص بها الله وحده دونا عن غيره من مخلوقاته.. وأن التحريم يجب أن يكون واردا في نصوص القرآن الكريم بوصفه رسالة الخالق للبشر لأن الأصل أن يكون كل شيء مباحا إلا ما جاء فيه نص بتحريمه.

   والله تعالى ينهى عن زواج المسلم والمسلمة معا من كافر أو مشرك لكنه لم يقل قط بتحريم زواج المسلم من كتابية أو المسلمة من كتابي، وكل ما جاء في هذه المسألة تحديدا هو (تحريم) من فقهاء لا يحق لهم أصلا القول بتحريم شيء أو فعل أو قول أو عمل لم يحرّمه الله تعالى، كما لا يجوز لهم لي عنق النص لاستخراج خلاصات ومرامي لم يقصدها.. ولو قصدها لعبر عنها ببيان ووضوح بلا لبس أو التباس.

   يحاول هؤلاء الفقهاء الاتكاء على الآية 221 من سورة البقرة وكذلك على الآية 10 من سورة الممتحنة وتفسيرهما خارج نصيهما وسياقهما بما يخدم رؤاهم ومراميهم.

   وأما ما يتعلق بالآية 221 من سورة البقرة يقول الله تعالى:

"ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون" (صدق الله العظيم).

   والحقيقة أن هذا النص القرآني ينهى عن زواج المسلم من مشركة إلا إن آمنت أو زواج المسلمة من مشرك إلا إذا آمن، وهو لا ينطبق على أصحاب الشرائع الأخرى من أهل الكتاب لأن أهل الكتاب ليسوا مشركين بل هم مسلمون ولكن يدينون بشريعة مغايرة، بدليل أن نفس الفقهاء أجازوا زواج المسلم من كتابية ولو بقيت على شريعتها.

 وبالتالي لو أنهم اعتبروا الكتابية مشركة لما أجازوا الزواج منها رغم بقائها على شريعتها.

   واستطرادا فإما أن نعتبر أن الكتابيون ليسوا مشركين (وهم كذلك) ويجوز الزواج منهم وتزويجهم.. أو أنهم مشركين (وهم ليسوا كذلك) فلا يجوز بالتالي زواج المسلم من كتابية – كما أفتى الفقهاء - والعكس صحيح.

   وأما ما يتعلق بالآية 10 من سورة الممتحنة فقد قال تعالى:

"يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله يعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن ّ حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوا ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلك حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم" (10- الممتحنة).

   وكما هو واضح فإن الخطاب هنا متعلق بالكفار لا بالكتابيين.. وكما هو معلوم فإن نفس هؤلاء الفقهاء قالوا بعدم جواز زواج المسلم من كافرة وبالتالي فإنهم عندما أجازوا زواج المسلم من كتابية فهم بالضرورة لم يعتبروا الكتابية كافرة وبالتالي أيضا وحيث أن تلك الآية تخص خطابها بالكفار فلا علاقة إذا للكتابيين بالأمر ولا يجوز الاستناد إلى هذا النص أيضا في (تحريم) زواج المسلمة من كتابي.

   إذاً.. لا نص على (تحريم) زواج المسلمة من كتابي وكل مالم يرد به نص بالتحريم، يبقى مباحا لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما أسلفنا.

   وقد ذهب هذا المذهب العديد من البحاثة والضالعين في علمهم منهم المفكر الإسلامي السوداني حسن الترابي، والدكتور أحمد صبحي منصور الأستاذ السابق في جامعة الأزهر والباحث عادل عبد العاطي والدكتورة آمنة نصير أستاذة العقيدة بجامعة الأزهر أيضا.

   بطبيعة الحال يملك المتدبرون والباحثون والفقهاء والدراس بطبيعة الحال أن يعتبروا هذا الزواج مكروها أو مذموما ويقدموا على ذلك ما يسعف رأيهم وموقفهم بالكراهة ، لكنهم بالقطع لا يملكون أحقية التحريم الذي كما أسلفنا هو خاصيّة أناطها الله بنفسه ولم يمنحها لبشر وضمّن لنا الله ما حرّمه علينا في رسالته إلينا على وجه التحديد الذي لا يمكن ولا يجوز القياس عليها لابتداع محرمات جديدة، ولكن يمكن ذلك لاجتراح ممنوعات ومحظورات لا يعني الإتيان بها ارتكاب إثم يستوجب العقاب الإلهي، ولكن يمكن فهمه ضمن إطار ضبط وتنظيم ممارسة الحلالات وليس تحريم ما هو مباح.

فالقانون وهو فعل بشري يجرّم أفعالا بعينها ويرتب على من يرتكبها عقابا متناسبا مع نوعية الفعل المجرّم وأثره الاجتماعي ومستوى ضرره، لكنه أيضا ينظم ممارسة ما هو مباح أصلا ولا يتركه نهبا لمزاج الفرد يمارسه كيف يشاء ومتى شاء.

وكما لا يمكنك القياس على الجريمة المنصوص عنها بالقانون بتجريم فعل لم يرد به نص، كذلك شريعة الله لا يمكنك ولا يجوز لك أن تقيس على ما حرمه الله لتحرم مالم يرد نص بتحريمه.