قيض الله لي زيارة للبوسنة عام 2014 بدعوة من اللجنة الدولية لشؤون المفقودين icmp ومقرها في سراييفو للاطلاع على آليات عمل تلك اللجنة في تحديد هوية الضحايا من بقايا الرفات وتحاليل الحمض النووي DNA والاصغاء إلى الخبراء الدوليين في إدارة ملف ما بعد الصراع بالنظر لتشابه الحالة البوسنية مع طبيعة الصراع في سوريا، وكان من ضمن البرنامج المقرر القيام بزيارة مدينة "سريبرينيتسا" وزيارة متحف الذكرى ومقبرة الشهداء واللقاء بممثلي المنظمات النسائية التي تشكلت بعيد المذبحة من أمهات وزوجات الضحايا.
في مدينة سريبرينيتسا المتواضعة الفقيرة جدا استقبلنا أحد المقاتلين البوسنيين السابقين ممن كتب لهم النجاة من المجزرة في مطعمه البسيط وأصر أن يقدم لنا طعام الغداء فيه بعد أن نقوم بزيارة ميدانية للموقع الذي كانت تقيم فيه الوحدة الهولندية التي أنيط بها حماية المدنيين بعد أن أعلنت تلك المدينة كواحدة من عدة مناطق آمنة من قبل الأمم المتحدة وقد أقنعت الوحدة الهولندية المقاتلين البوسنيين المتواجدين في المدينة ومعظمهم من سكانها الذين أجبرتهم الحرب على حمل السلاح دفاعا عن حياتهم واسرهم وبيوتهم ، أن يسلموا أسلحتهم لها طالما أنهم صاروا بحماية دولية .. وهكذا كان.
لم يدرك أولئك البسطاء الطيبين أنهم عندما وثقوا بالوعد الهولندي – الأممي قد كتبوا شهادة وفاتهم وأن المقاتلين الصرب المتطرفين المتعطشين للقتل أعدوا العدة لأفظع إبادة ستشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وفيما كان الجنود الهولنديون يراقبون المشهد بصمت أقتحم المجرمون الصرب المدينة وبدأوا بجمع الرجال والشباب والأطفال بينما حشرت النساء في شاحنات وتم نقلهم لأماكن بعيدة عن المدينة تحتوي على هنكارات تم فيها اغتصاب المئات منهن، بينما بدأت الفرق العسكرية بتصفية كل من اعتقل من الرجال ودفنهم في قبر جماعي كبير على مقربة من مدينتهم ولم ينج منهم إلا عشرات فقط لاذوا بالجبال فرارا من موت محتم خلال عملية اقتحام المدينة .. ليستفيق العالم على فظاعات الإبادة الصربية للمسلمين البوسنيين حيث بلغ عدد الضحايا في تلك المذبحة الرهيبة التي استمر ارتكابها عشرة أيام متواصلة ثمانية آلاف وثلاثمائة واثنان وسبعون ضحية!!!.
في متحف إحياء الذكرى لا يمكنك وأنت ترى صور الضحايا وبقايا ما عثر عليه في جيوبهم وصورة الفتى الصغير الذي وجد معه دفتره المدرسي، إلا أن تختنق بجنجرتك التي تكتم نحيبك فتنفر عيناك بالدموع وأنت تحدث نفسك كيف لبشر أن يفعل ذلك؟!! كيف لمقاتل أن يردي طفلا يحمل دفترا يهم الذهاب به لمدرسته قبل أن يطبق عليه الجنود فجأة ليسوقوه إلى الموت؟؟!!!.. وكيف للعالم (المتحضر) أن يسمح بتلك الجريمة أمام نظره ولم يحرك ساكنا .. لم يفعل الجنود الهولنديون - لحماية منطقة قررتها الأمم المتحدة كمنطقة آمنة وأوكلت أمر حمايتها لهم - أي شيء سوى الفرجة!!!.
في مقبرة الشهداء كل شواهد القبور متماثلة.. آلاف منها على مد البصر تقف بخشوع أمامها ولا تملك إلا قراءة الفاتحة لأرواحهم المغدورة.. وعندما تلتقي أمهات وزوجات الضحايا لا يمكنك إلا أن تجهش بالبكاء المكتوم لوجعهم.. لما واجهنه من ألم ولا يمكنك أيضا إلا أن تعجب وتنحني لإصرارهم على جعل ذكرى ذاك اليوم سوطا يجلدون فيه العالم المتخاذل عن نصرتهم ويناضلون بدأب وبلا كلل لتوصيف ماحدث كجريمة إبادة وهو حق لهن .. وفي الوقت الذي تعترف به بعض الدول المتحضرة ومن باب النكايات السياسية الوضيعة بـ (مذابح الأرمن) كإبادة جماعية وكثير من تلك الدول لم تعترف بمجازرها وجرائمها خلال فترة استعمارها لدول أخرى وتعتذر عنها، فإنها وبكل صفاقة تقاوم وترفض حق البوسنيين في توصيف مجزرة سريبرينيتسا كإبادة جماعية!.
وكما أجهض الروس كل مسعى دولي في مجلس الأمن لإحالة ملف الجرائم والفظاعات المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، فقد أجهضوا أيضا في العام 2015 المسعى الدولي في مجلس الأمن لتوصيف تلك المذبحة الرهيبة في (سريبرينيتسا) كإبادة جماعية وكأن السياسة الروسية لا تعرف إلا حماية القتلة والمجرمين ضد حقوق الشعوب.
أما وقد مضى ربع قرن ونيّف على تلك المذبحة فإنه لم يفت الأوان بعد لإنصاف ذوي الضحايا وتعويضهم بمختلف أشكال التعويض والاعتذار لهم ودعم جهودهم التي لاتكل لأجل توصيف ماجرى كإبادة جماعية وتحميل مرتكبيها مايترتب على ذلك من مسؤوليات .. لم يفت الأوان بعد لتعمل الكثير من البرلمانات على اثبات تحضرها وعدم تحيزها أمام الحقائق القانونية، وتبنيها لقرارات تعترف فيها بمذبحة سريبرينيتسا كإبادة جماعية وفي المقدمة منها البرلمان الهولندي عسى أن يغسل بهذا القرار عار صمت جنوده شهود المجزرة وشاهديها.