أدونيس: أيها الصديق. لماذا تركت الحصان وحيدا؟.

الشاعرالسوري  أدونيس
الشاعرالسوري أدونيس


كانت أمسية شعرية جميلة في معهد العالم العربي. شاعرنا ادونيس على المنبر بنظارتين مستديرتين، وشعر منسدل اختلط فيه لون الملح بالفلفل. الإلقاء جميل، والآذان صاغية: قصيدة أغاني مهيار الدمشقي:

ملك مهيار

ملك والحلم قصر وحدائق نار

واليوم شكاه للكلمات

صوت مات..

الصالة مزدحمة، لا حركة لا صوت، سوى صوته الذي بدأ يبح، ويختلف رنينه:

غيّر رنينكَ يا صوتْ. أسمع صوت الفرات:

-قريش..

لؤلؤة تشعّ من دمشق

أجمل ما حدّث عنه الشرقْ

-لم يبق من قريش

غير الدّم النافرِ مثل الرّمحْ

لم يبق غيرَ الجرح.

صوت مكتوم ببكاء ودموع تسلك اخاديد وجهه..

أتذكر يا صديقي هذه الأمسية كأنها بالأمس. حفرت في ذاكرتي كترنيمة هيروغليفية على سطح مسلة فرعونية. ذاك المساء كان لقاؤنا الأول خرجنا معا. تناولنا عشاء مع أصدقاء آخرين. قلت: كلمة دمشق تثير في نفسك الاشجان. واليوم دمعنا أيضا لا يكفكف على دمشق وسورية كاملة وانت تقول:

قلبي للثورة مستنفر

دقاته صارت زمان الزمان

غدا عندما بلادي تغني

فقل أنا حر، وقل انت حر

ويلادنا غنت أغنيتها:" إرحل إرحل يا بشار" فقُطعت حنجرة من غناها ياصديقي.

أتذكر يوم جلسنا معا في بيتك في " الدفانس" في "العلية" وكان يوم ريح ودعوتني لأستريح وقلت لي عندما سألتك عن العشق الذي شبهته بقضيب شوك اندس في قلب العاشق وجذب فأخذ ما آخذ وترك ما ترك، وامتلأ فمك ضحكا وقلت لي: يا صديقي ألم تعشق في حياتك لتسأل هذا السؤال. انت لا تعرف هذه الهوة الجميلة التي اسمها العشق وضحكت حتى بانت آخر ضرس في فمك. وزرنا معا بعد عدة من سنوات أُخر عاشقا تاريخيا شاعرا مثلك مات اسيرا في أغمات في المغرب وهو يلوم عشيقته الجحودة اعتماد التي صنع لها طينا من عطر وكافور كي تخبص فيه بقدميها وتعاتبه أنها لم تر يوما سعيدا معه. ويقول لها: حتى يوم الطين. كان معنا في هذه الرحلة الراحل طيب صالح صاحب موسم الهجرة إلى الشمال. ونحن هجرنا إلى الشمال قبل الموسم بزمان

واليوم جاء موسم هجرة شعب سورية بأكمله إلى الشمال، والجنوب والشرق، والغرب. يا صديقي لو فكوا لشعبنا الأغلال، وحرروه من كلمة رفيق، وحولوا أقبية التعذيب إلى متاحف للحزن والألم العميق، لجعل من وطننا جنة تجري من جوانبها الأنهار, ولكن كما تقول:

يئس الشعب من مغالبة اليأس

يتمشى في صدره قلق جمر

وصوت مجرح مخنوق

كلما هم أن يثور على القيد

تولاه خائن أو عقوق

يا صديقي أتذكر عندما رويت لي بأنك كنت حتى سن الرابعة عشرة لم تدخل مدرسة، وعلمت أن رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي سيزور طرطوس، وركضت بين الحقول من قريتك قصابين إلى طرطوس متوحلا لتلقي قصيدة فيه وأذكر مطلعها

رئيس لو حذفت لام وياء من اسمه بات قوة لا يستطاع لها رد

أي قوة لي

فأعجب بك الرئيس وسألك ما ذا تتمنى ان يفعل لك فقلت له: أريد أن أتعلم، فأمر بتعليمك في ارقى مدارس سورية ومن هنا بدأ مشوارك نحو العالمية. كان زمنا جميلا، كنا فقراء ولكن سعداء، ما كنا نرتعش لرؤية بسطال ضابط، ولا نخاف ان نتفوه بكلمة فتصل إلى فرع المخابرات الجوية، وننتهي في نفق مظلم.

أتذكر يا صديقي عندما ذهبنا معا بدعوة من البوليتكنيك الفرنسية لإحياء أمسية شعرية في ارفع مدرسة تقنية في فرنسا وقلت فيها:

ها أنا أتسلق اصعد فوق صباح بلادي

فوق انقاضها وذراها

ها أنا أتخلص من ثقل الموت فيها

ها أنا أتغرب عنها

لأراها

فغدا قد تصير بلادي.

لماذا وضعت حرف قد هل كنت تشك مذاك الزمن بصيرورة بلادنا؟

أفدني، أغثني، هل كنت تستشعر مآل بلادنا إلى هذه الهوة السحيقة؟

عندما سألتك ذات يوم لماذا اسمك ومنذ سنوات على قائمة جائزة نوبل القصيرة، ولم يكرموك بها؟ أجبتني هم يفتخرون بي وأنا لا أفتخر بهم. .

 أنت شاعرنا وأنت حبيبنا وفيك نفتخر يا أدونيس, بجائزة نوبل أو بدونها فليست شهادتها التي تجعل منك شاعرا. ومعك نحدو كما يحدون في سرى الليل العيس يا صديقي أدونيس. لم أقل لك يا صديقي منذ افترقنا: شبيحة النظام قتلوا أخي تحت التعذيب, ودمروا بيت اختي ببرميل متفجر، ومات والدي كمدا على ولده. مهما بلغت القصيدة من بلاغة لا يمكنها ان تصف الحالة التي كنت فيها. أوافقك يا صديقي الرأي عسكرة الثورة سرقت براءتها، خطفت كلمتها: حرية، سورية بدها حرية. والبندقية لم تخدم سوى النظام، والتطرف لم يخدم ثورة شعبنا العظيم، بكل مكوناته، أنت، وأنا، وهو، وباختصار: نحن. ولا شيء سوى نحن. ولكن يا صديقي لم تكن ثورتنا ثورة مساجد، لماذا لا ننزع عنا عباءة الطائفية، ونسرج الأفراس معا كما تقول:

"أركض خلف الوطن المسجون

في غابة الأعراس في طفولة الأجراس،

أستنفر الأهداب و الظنون

حول سرير العشب و الحصاد

و أسرج الأفراس

نحوك يا بلادي".

لكنك يا صديقي لماذا تركت الحصان وحيدا يصهل من ألم.؟

رياض معسعس