ماذا لو كان الفلسطينيون جميعا مسيحيين؟

ثيودور هيرةزل
ثيودور هيرةزل

(عن القدس العربي)
هل تبادر هذا السؤال إلى ذهن أحدكم يوما؟ سبرت أغوار البحوث والمقالات والكتب لم أعثر على مثل هذا السؤال، ولا الجواب، فهو في حد ذاته بالطبع افتراضي، ولكن هذا التساؤل يجر إلى حقائق أخرى وافتراضات مختلفة، فالعالم أجمع يتحدث بشكل عام عن «القضية الفلسطينية» ولا أحد يطرح المشكلة من مفهوم «القضية الإسرائيلية»، أو «القضية اليهودية» لأن إسرائيل دولة يهودية، ولأن إسرائيل هي المحرك الأساسي لمشكلات الشرق الأوسط والدمار الذي لحق به برمته مدعومة من الغرب بأكمله، لماذا صمت الغرب منذ حوالي قرن على جرائم الاحتلال بداية من فلسطين ثم الدول المحيطة وحتى البعيدة؟ لنقف ونفكر لماذا نجحت الصهيونية بإقناع الدول الغربية بتبني مشروعها، الذي أطلقه ثيودور هرتزل في العام 1897 في بازل بسويسرا القائم على احتلال فلسطين والاستيطان فيه ليهود العالم وانشاء دولة يهودية بعد طرد المسلمين منها؟ ولماذا بادرت الدول الغربية بتبني هذا المشروع؟ للجواب الأسباب عديدة: التخلص من عقدة الذنب تجاه اضطهاد اليهود في أكثر من دولة أوروبية (قبل الهولوكوست وبعده). التخلص من اليهود وتسفير ما يمكن تسفيره خارج أوروبا، الاستفادة من المتمولين اليهود الذين بذلوا بسخاء لدفع الغرب لتبني هذا المشروع لتمول بريطانيا وسواها الحرب العالمية الثانية التي كانت متوقعة خاصة بعد صعود النازية والفاشية، زرع قاعدة عسكرية في قلب الشرق الأوسط لحماية تدفق النفط من جهة، وتدوير البترودولار بافتعال الحروب والأزمات لبيع الأسلحة والسيطرة على الأسواق من جهة أخرى. منع العرب من بناء أنفسهم وتحقيق نهضتهم التي ممكن تنافس الغرب أو الاستغناء عنه على أقل تقدير.
هذه الأمور مجتمعة جعلت الغرب يفكر بهذا المشروع عبر وعد بلفور المشؤوم الملغوم، والاحتلال المباشر للشرق الأوسط عبر اتفاقية سايكس بيكو لاقتسام تركة الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية). هذا الاحتلال الجديد يذكر بالصليبية التي لم تكن مختلفة في أهدافها كثيرا طبقا لحسابات ذاك الزمان التي كان هدفها احتلال الشرق أيضا تحت غطاء تحرير ضريح المسيح وإنشاء دولة مسيحية بعد طرد المسلمين منها (والمسيح صعد إلى السماء حسب ما جاء في الإنجيل والقرآن ولا يوجد ضريح) (يقول البابا أوروبان الثاني في خطبته الشهيرة التي أطلقت الحروب الصليبية:» إن جنسا لعينا قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين في الشرق فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس، الضريح الذي تملكه الآن أمم نجسة» (كانوا يعتبرون أن الشرق بلاد المسيحيين من بيزنطيين ورومان، والحملات كانت بهدف طرد المسلمين وإعادة بناء ممالك مسيحية هزمت على يد المسلمين، وخاصة في فلسطين) وفي الواقع لو أن المسلمين فشلوا في طرد الصليبيين لكانت فلسطين إلى اليوم مسيحية برمتها وربما لبنان وسوريا كما حصل اليوم مع اليهود. والتخلص من المسلمين كان عن طريق المجازر المروعة التي وثقها مؤرخون عرب وغربيون، كما يحصل اليوم في غزة والضفة، وجنوب لبنان، وسوريا. وكان أيضا هناك نداءات بابوية لتطهير أوروبا من المسلمين وطردهم من الأندلس، وكانت أيضا بمجازر مروعة وبمحاكم تفتيش دامت ثلاثة قرون أجبروا خلالها المسلمين على اعتناق المسيحية ومن يرفض فالقتل أو التهجير كما يحصل اليوم في غزة. وفكرة احتلال الشرق لم تنته مع الصليبيين التي استمرت حوالي قرنين (1096ـ 1291). إذ جاءت حملة نابليون في العام 1798 لمصر ومنها إلى فلسطين لكن نابليون هزم في عكا وأجهض حلمه باحتلال مرة أخرى فلسطين (وهنا تجدر الإشارة إلى أنه أول من أطلق فكرة إنشاء وطن لليهود في فلسطين تحت سلطة فرنسية). وحاولت الدول الغربية بشكل عام نشر المسيحية في الشرق عبر الإرساليات المسيحية لكنها لم تفلح كثيرا في إقناع المسلمين بتغيير ديانتهم.
الدعاية الصهيونية التي اعتمدت بشكل أساسي على مصطلح أن حضارة الغرب هي حضارة يهودية مسيحية وكل من يتعرض لليهود بأي نقد فهو ضد السامية
ولم تيأس فرنسا ولا بريطانيا في تحقيق حلم السيطرة على الشرق الأوسط فتم الاتفاق بينهما على ما سمي باتفاقية سايكس ـ بيكو وبناء دولتين في الشرق واحدة يهودية في فلسطين، وأخرى مسيحية في لبنان.(أي تمكين المسيحيين الموارنة من حكم لبنان بعد اقتطاعه من سوريا الكبرى) هذه الاتفاقية التي كانت أكبر خيانة من بريطانيا للشريف حسين الذي تحالف معها لإسقاط الإمبراطورية العثمانية على وعد هنري مكماهون بإنشاء المملكة العربية ومات حزينا في قبرص بعد نفيه إليها وفي جيب جلبابه رسائل السير مكماهون المخادعة.
بعد الحرب العالمية الثانية انتشر تداول مصطلح أن الحضارة الأوروبية هي حضارة يهودية مسيحية الذي حل محل المصطلح القديم الحضارة الغربية هي حضارة لاتينية يونانية، (وهنا لم يكن الغرب منصفا لأن هذا المصطلح يجب أن يكون لاتينية يونانية عربية) ومع أن الحضارة هي كل ما يميز شعب من الشعوب بعاداته وتقاليده، وتاريخه وإبداعاته العلمية والثقافية وما يقدمه للبشرية وهو بحد ذاته في تطور مستمر، بينما الدين هو معطيات ومفاهيم ثابتة تتعلق بعلاقة الإنسان بما يعتقده من علاقة مع الشرائع السماوية، ولا تخضع للتغيرات المجتمعية وللتطورات العلمية والثقافية. وعليه لا يمكن أن نحصر التطور الحضاري بدينين مجتمعين أحدهما يستمد جذوره من الآخر. وهذان المفهومان عن الحضارة الغربية يشتد الخلاف حولهما كلما يوضعان محل نقاش. وقد اشتد النقاش حدة بعد السابع من أكتوبر والإبادة الجماعية التي تعرض لها الفلسطينيون.
وهنا نتوقف قليلا عند كتاب صدر مؤخرا (بعد طوفان الأقصى) للمؤرخة صوفيا بسيس بعنوان: «اليهودية المسيحية: تشريح الخدعة». حيث تؤكد الكاتبة الغرب تبنى هذا المصطلح من الغرب لتسييسه خاصة بعد المحرقة اليهودية، وإنهاء العدائية لليهود الذي استمر منذ صلب المسيح من ناحية (وكانت الكنيسة الكاثوليكية قد برأت الشعب اليهودي من المسؤولية عن دم المسيح منذ العام 1965 ليتوافق مصطلح الحضارة الأوروبية أنها يهودية مسيحية، عندما كتب مجلس الفاتيكان الثاني لا يمكن أن يُنسب إلى اليهود كافة عذابات المسيح وآلامه دون تمييز، سواء الذين كانوا أحياء وقتذاك أو يهود اليوم) وشيطنة الإسلام المنتج للإرهاب من ناحية ثانية. وبمعنى آخر أن صدام الحضارات لم ينته بعد منذ صدمة بواتييه والصليبية، وهذا المصطلح الرائج في الغرب (الحضارة الغربية يهودية مسيحية) لا ينطبق على المسيحيين في أمريكا الجنوبية ولا إفريقيا أو بمفهوم آخر هو حكر على الدول الداعمة للمسألة اليهودية في مشروعها الاستعماري الإحلالي في فلسطين وحتى توسعها على حساب الدول المحيطة، وصمت الغرب على كل جرائمها دليل على ذلك، هذا في وقت التحرر من الاستعمار الغربي في العالم. اليوم كشفت حرب الإبادة في غزة زيف الغرب في تركيبته الثقافية المشرعة لإحلال شعب ضد آخر، الأول يهودي والثاني مسلم. وهنا نصل إلى الجواب على السؤال، عن لو كان الفلسطينيون مسيحيين هل سيتبنى الغرب المشروع الصهيوني المتخذ من اليهودية مطية استعمارية كولونيالية؟
الجواب نجده في ردود الفعل في الغرب على المستوى الرسمي والشعبي عندما يتعلق بمسيحيي الشرق فهم وقفوا مع الموارنة في الحرب الأولى في لبنان (1860) وفي الحرب الثانية (1958) وفي الحرب الثالثة (1975) وأثاروا ضجة لتعرض «داعش» لمسيحيي العراق وسوريا والاعتداء على كنائسهم، وأدانوا هذه المرة إدانة شديدة لارتكابها مجزرة كنيسة القديس برفيريوس في غزة في أكتوبر والغرب يعرف أن المسلمين هم من حموا اليهود وخاصة بعد محاكم التفتيش، والمسيحيين حتى بعد الصليبية، وحملة نابليون، وسايكس بيكو، بينما صمت الغرب بأكمله على الإبادة الجماعية لمدة سنتين للشعب الفلسطيني وتدمير كل مساجده. والجواب هو لو كان الشعب الفلسطيني مسيحيا لاختلفت نظرة الغرب للمشروع الاستعماري الصهيو ـ غربي ولقامت الدنيا ولم تقعد في الفاتيكان، وكل كنائس العالم، وحتى على المستوى الشعبي أيضا لرؤية أن اليهود يستعمرون دولة مسيحية، كما تعارض شعوب العالم اليوم الإبادة الجماعية في فلسطين الذين اكتشفوا الحقيقة الفاقعة بعد أن ختمت وسائل الإعلام الغربية على أبصارهم وأفئدتهم بسبب الدعاية الصهيونية التي اعتمدت بشكل أساسي على مصطلح أن حضارة الغرب هي حضارة يهودية مسيحية وكل من يتعرض لليهود بأي نقد فهو ضد السامية وضد الجذر اليهودي للحضارة الغربية حسب زعمهم. وللكلام بقية.
كاتب سوري