دمشق العشق

باب شرقي في دمشق
باب شرقي في دمشق


يا ست الدنيا، يا منارة التاريخ جئتك عاشقا، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها قالها الأبله البغدادي ويا له من قول حق من فيه الأبله إذا كان الشوق للعتيقة عتق الدهر، ولواحة حاقت بها كسوار في معصم غوطة الزهر، للأموية الأبدية التي حكمت الدنيا وما فيها، وبنت صروح العز والعلم في أقصى الدنى يحدثك عنها بنو الأحمر. يا شام كم أنا مشتاق، يا شام أنا فيك من العشاق، كابدت ما كابدت في البعد عنك، وأنت أقرب من حبل الوريد مني. أراك في هديل اليمام الأموي، وفي الأزقة الغابرة، في شجرة الكينا على كتف بيتي، وبائع النابت في طريق مدرستي، وفي دكاكين العطارين، في حكواتي النوفرة، وفي أحجار قلعة صلاح الدين محرر القدس وقاهر الصليبيين، في مكتبة الظاهر بيبرس، في الست زينب، في كل المساجد، والكنائس، والكنس، التي توحد الواحد أحد بكرة وأصيلا، في عبور باب السلام في الأصابيح، وفي آذان مئذنة العروس في الأماسي، في رائحة الخبز، وعطر الياسمين، في باحة بيتي العجوز يجاور مكتب عنبر، في المرور برفق من الباب الشرقي المنفتح على بوابة جنة الغوطة، في ملعقة من بوظة بكداش في الحميدية، في صحن الفول في سوق ساروجا، في حمام الناصري، في قمة الأشم قاسيون، في رائحة التوابل الفواحة في البزورية، في قبر عاتكة، والشاغور، وقبر من علم الناس السياسية وقيادة الفتوحات الذي قال لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت. كنت دوما وأبدا قاهرة الغزاة والمتسلطين، الكل غاب ورحل وبقيت أنت يا أخت التاريخ، إنا عائد إليك، عائد من زمن سحيق، بلا رفيق، أحمل أمتعة غربتي، وكل أثقال الحنين، هكذا امتحننا القدر، هكذا فاز من صبر، هكذا كان ما كان، وهكذا العدل انتصر. نعود إليك من تشريد، نعود إليك بعد كسر الزرد الحديد، فلا يفل الحديد إلا الحديد، عدت إلينا، وعدنا إليك، نحن أبناؤك، نحن الذين رضعنا لبنك، وحبونا في حضنك، لا الغياب المضني أنساناك، ولا عذابات الجلادين، والقوادين، والمخبرين، والجلاوذة، والحشاشين، ومصاصي الدماء، وخونة الأوطان، والجبناء الهاربين. والله عالم ما في القلوب، كنا في بلاد الصقيع كلما بزت الشمس قرنا من خلف المزن اللبيد أتذكر شمسك، يسري الدف في عروقي، مشيت في أزقة قرطبة التي بناها ابنك الأموي، وفي إشبيليا، وسرقسطة، وغرناطة التي علمت الغرب الظلامي ماهي الحضارة، عندما كنت سيدة العلم والنور، كيف تعايش الأعراق والأديان، كيف ينصهر الفرد في الكل والكل في الكل وتنبثق الحضارة والإعجاز الإنساني أيتها الأموية الأبدية، ما أحوجك يا ست الدنيا أن تعلمي اليوم من يجحد فضلك، ومن يبصق في بئرك الذي شربوا منه، ومن يجاهر بالاستقواء بأعدائك ضدك، ومن أراد خرابك، يا حاضرة الدنيا، هؤلاء الذين أكلوا من خبزك، ومن منك وسلواك، تناسوا محبتك، وحضنك الدافيء، ورقة تعاملك. لقد انتفض ابناؤك البررة ليضمدوا جراحك، وليمسكوا بيدك، لتخرجين من رماد الحقد، والظلم، والإجرام، والداء كالعنقاء، يا أمنا الحبيبة أعذرينا إن تأخرنا، واعطنا طرفا من ردائك لنقبله ونشم رائحة عطرك. نحن لك، وانت لنا، وعشقنا لك لا حدود له في المكان والزمان، فأنت الأبد وغيرك لا أحد