لم يستوعب العرب درس مؤامرة الحلفاء الكبرى بعد تحالفهم معهم لإسقاط السلطنة العثمانية على أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولى التي كان مخططا لها من بريطانيا وفرنسا، وتنتظر الشرارة الأولى باغتيال وريث العرش النمساوي الأرشيدوق فرانتز فريديناند في سراييفو في العام 1914. ولم يتيقظ الشريف حسين إلى المؤامرة الكبرى، والخديعة الأكبر للحلفاء بنكوصهم العهد الذي اقتطعوه له ببناء المملكة العربية التي تمتد من الحجاز إلى سوريا الكبرى والعراق. فبعد أن أقنع الجاسوس البريطاني توماس إدوارد لورنس (لورانس العرب) الشريف حسين بالالتحاق بركب الحلفاء، كان مارك سايكس البريطاني، وجورج بيكو الفرنسي يرسمان بالقلم والمسطرة خرائط الشرق الأوسط الجديد، ويرميان في سلة المهملات رسائل الحسين ـ مكماهون التي كان التاج البريطاني يطمئن فيها الحسين لبناء مملكته قبل أن تنفيه إلى قبرص بعد إكمال المؤامرة الكبرى التي كشفت عنها جريدة البرافدا بعد سقوط القيصرية الروسية التي كانت شريكة في المؤامرة لاقتسام التركة العثمانية على أيدي البلاشفة. هذه المؤامرة الكبرى للغرب بأكمله الذي كان يسيطر على عصبة الأمم، كما يسيطر اليوم على الأمم المتحدة، لم تقتصر على تقسيم الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا كما تقسم تركة «الرجل المريض» بين ورثته، أو بالأحرى كعكة التورتة، بل الأخطر من التقسيم بالمسطرة والقلم أراضي سوريا الكبرى هو زرع التقسيم الديني والطائفي والعرقي. فبريطانيا التي كان نصيبها (فلسطين والأردن والعراق) زرعت دولة يهودية في فلسطين على حساب العرب من مسلمين ومسيحيين، لتشكل هذه الأقلية اليهودية فيما بعد الدولة المارقة التي تبناها الغرب وخاصة أمريكا كقاعدة متقدمة وخادمة لمصالح الغرب مقابل الدعم والتأييد والتسليح والتمويل، وإفشال كل القوانين الدولية المطالبة لها باحترامها حتى أصبحت اليوم الدول المارقة، المعربدة المتآمرة على كل دول الشرق الأوسط من عرب وعجم وأتراك. وسلم الحلفاء الحكم في الأردن والعراق لأبناء الشريف حسين (فيصل وعبد الله)، أما فرنسا التي كان نصيبها سوريا الحالية ولبنان الذي كان تابعا لها فقامت على الفور بإنشاء دولة لبنان بقيادة مارونية حسب ميثاق لبنان 1943 الذي خص الموارنة بالرئاسة للدولة والجيش، والسنة برئاسة وزراء شكلية، ورئاسة البرلمان للشيعة أي التقسيم السياسي على أساس طائفي، وهذا ما فجر حربين أهليتين الأولى في العام 1958، والثانية في العام1975 والتي دامت 15 سنة وانتهت باتفاق الطائف الذي حد من صلاحية رئيس الدولة الذي بقي مخصصا للموارنة، وزيادة في صلاحية رئيس الوزراء الذي بقي سنيا، وكذلك بالنسبة لرئاسة البرلمان الذي بقي للشيعة، ولم يحظ الدروز ما حظي به الآخرون. أما في سوريا فقامت فرنسا بإنشاء مشروع تقسيم البلد لخمس دول مفصلة طائفيا حسب تواجدها جغرافيا:» دولة حلب، دولة العلويين، دولة الدروز، دولة دمشق، الإدارة الممتازة للجزيرة (مناطق تواجد الأكراد والعرب السنة، الإدارة الممتازة للواء إسكندرون الذي ستتخلى عنه فرنسا لصالح تركيا في عام 1939)، هذا التقسيم الذي رفضه السوريون بجميع طوائفهم أشعل ثورة 1925 بقيادة سلطان الأطرش (زعيم درزي)، وتم إفشال هذا المشروع ونالت سوريا استقلالها في حدودها الحالية في العام 1946. وفي العام 1967 تم احتلال الجولان من قبل دولة الاحتلال.
ترامب لا يريد أن تنتهي ولايته الثانية والأخيرة بدون إكمال مشروعه الإبراهيمي والاطمئنان على الدولة المارقة
لم تع الأنظمة العربية إلى اليوم أن فائض القوة لدولة الاحتلال المارقة لابد وأن تستخدمها يوما ضد هذه الأنظمة، وأن الهرولة إلى تل أبيب لاسترضائها وإرضاء واشنطن باتفاقيات أبراهام وما سبقها لن تساوي الحبر التي كتبت فيه في اليوم الذي تجد هذه الدولة المارقة التي بدأت كعصابات إرهابية في بدايات القرن الماضي أصبحت اليوم أقوى دولة في الشرق الأوسط وتهدد جميع دوله بشكل مستمر بطريقة أو بأخرى، وما يجري في غزة هو أكبر تحد وإهانة للعرب جميعا، وللإنسانية جمعاء التي لا تستطيع لجم جماحها. لم تتيقن الأنظمة العربية حتى اليوم أن قوتها في وحدتها، ووحدها فقط تجعلها تواجه كل من يريد استباحة أمنها. ورغم أن كل زعماء هذه الدولة المارقة يصرحون جهارا نهارا وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو أنهم يريدون تغيير الشرق الأوسط، وتفتيت سوريا، ولبنان، وطرد الفلسطينيين من غزة، وقد أيد الكنيست مؤخرا مقترحا يقضي بضم الضفة الغربية، لم يواجه من الدول العربية والإسلامية إلا ببيان ككل البيانات السابقة التي تدين انتهاكات إسرائيل وجرائمها. الجنرال الإسرائيلي يسرائيل زيف أكد في مقال له على موقع القناة 12 الإسرائيلية أن كل دول سايكس بيكو كبراكين على وشك الانفجار، وأن سوريا أصبحت نسخة من الصومال، ويتأسف لعدم دعم الدروز «الأشقاء»، ولم تخف دولة الاحتلال مساعيها لتجزئة سوريا، لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى «من الفرات إلى النيل»، وهي تخشى اليوم من سوريا الجديدة وعودة ازدهارها ومنعتها وهي تعمل بشتى الوسائل لتهديد وحدتها وأمنها. عربدة إسرائيل، وضربها عرض الحائط كل القوانين الدولية تعاظم مع وصول دونالد ترامب في دورته الأولى الذي سارع إلى اعتراف أمريكا بسيادة دولة الاحتلال على الجولان، ونقل سفارة أمريكا إلى القدس، وهندسة «اتفاقيات إبراهيم» التي سارعت أربع دول عربية للتطبيع مع الدولة المارقة، ومع دورته الثانية لم يتوان عن طرح فكرة تهجير فلسطينيي غزة، وضرب المشروع النووي الإيراني، وحشد قوات أمريكية ضخمة لحماية الحليف المدلل وغض الطرف عن كل الانتهاكات في غزة، والضفة، ولبنان، وسوريا، وإيران، وكل عمليات الاغتيال التي قامت بها في أكثر من مكان في الشرق الأوسط، وكلام ترامب أمام الصحافيين بأن مساحة إسرائيل صغيرة مقارنة بجيرانها تعني أنه يسعى لتمددها في الأراضي العربية، ولم يكن عبثا عندما صرح المبعوث الأمريكي لسوريا توماس براك بأن :» الغرب فرض قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات وحدودا مرسومة بالحبر، وأن اتفاقية سايكس ـ بيكو قسمت سوريا والمنطقة لأهداف استعمارية لا من أجل السلام، وأن ذلك التقسيم كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل». كيف ذلك؟ هل هناك تقسيم جديد ووجه جديد للشرق الأوسط كما يتمنى نتنياهو؟ وهل هناك اتفاقية جديدة باسم ترامب ـ نتنياهو تحل محل سايكس ـ بيكو؟ ما قاله توماس باراك ليس من بنات أفكاره بل لابد أنه متداول في دهاليز الإدارة الأمريكية لتكون إسرائيل حجر الزاوية في صرح الشرق الأوسط الجديد عبر تفاهمات إبراهيمية جديدة فترامب لا يريد أن تنتهي ولايته الثانية والأخيرة بدون إكمال مشروعه الإبراهيمي والاطمئنان على الدولة المارقة ولو على حساب دول وشعوب المنطقة كما حصل في سايكس ـ بيكو، لأن مع أي تفاهم جديد لا بد من أن تكون الدولة المارقة هي الرابحة، والآخرون هم الخاسرون.