في حضرة نزار

الشاعر السوري الراحل نزار قباني
الشاعر السوري الراحل نزار قباني

كلما حل الثلاثون من نيسان/أبريل يعود بي الزمن إلى العام 1998. في ذاك اليوم تلقيت خبر رحيل نزار. مات نزار، ومات شيئ من القوافي. مع وقع الخبر كدت أقول: قفا نبكي من ذكرى حبيب. أتذكر عندما التقيت به أول مرة في غرفته في فندق باريسي. قبل اللقاء كان شوقا، وبعد اللقاء كان عشقا. بعينين كزرقة سماء دمشق، نظر إلي وبسمة وديعة ترتسم على شفتيه. تمنيت أن يدوم لقاؤنا أكثر من ساعتين مع هرم دمشق. كأن أمامي جبل صعب الذرى، وعر المسالك. طائر فريد تطارده الرياح أنى حل وارتحل، غرد عمره خارج سرب المدجنين من لا يتقنون الصهيل. حديثه كان امتدادا لمداد كوامن النفس، سراب يتسرب إلى الأذن قبل العين كرفيف الأهداب، يدخل في كل منعطف من منعطفات القلب ويستقر. عندما عنونت نشرتي بعنوان واحد: رحيل الشاعر الكبير نزار قباني، عابني مدير القناة قائلا: "هل جعلت منه أفضل من الرئيس". يا للغباء.. كم من رئيس، وملك، وأمير يذكرهم التاريخ؟!! قلت: الرئيس يموت، ونزار لا يموت. لقد خلد المتنبي بشعره ملكين مدح سيف الدولة

وقفت وما في الموت شك لواقف       كأنك في جفن الردى وهو نائم

وهجا كافور بقوله

وتعجبني رجلاك في النعل إنني                     رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا

امتعض وصار وجهه كعرجون قديم.

وللقصة بقية..

أستاذ نزار لم يكن منزلي بعيدا عن منزلك في دمشق. كنت أقطن قبالة مكتب عنبر، هل ترى شجرة الكينا مقابل الجامع، على كتف فرن الخبز "المشروح"، على جانب الفيجة، كنا نسمع ربما معا صوت المؤذن بصوته الحي الرخيم، ونشرب من نفس الماء، ونسلك نفس الزواريب لنصل إلى المسجد الأموي نصلي، وننصت إلى هديل الحمام، وضجيج التاريخ، هنا في هذا المكان الفريد الذي لا يشبهه مكان يرقد رأس الحسين، ورأس يوحنا المعمدان، وهنا ركع فيه جبابرة كل زمان. ومن هناك نتدرج سوق الحميدية، نأكل بوظة بكداش، ونصغي إلى حكواتي قهوة النوفرة.. يحكي لنا قصص عنترة، والمهلهل، والظاهر بيبرس. نرفع عقيرتنا كلما تلا شعر عنترة:

وسيفي كان في الهيجا طبيبا                  يداوي رأس من يشكو الصداعا.

ماذا تعني دمشق للشاعر نزار؟

وكأنني نكأت جراحا متفرقة في مساحات فؤاده، أو أثلاما في روح متشظية. كأنه نَهَر دمعة حبيسة، وكتم غصة. سرح مع ذكريات بعيدة بعد العمر المر الذي مر. قال: لا أمل في العودة وسياف دمشق أبو لهب يسبي دمشق. شف شفة من فنجان قهوة كانت ترسل دخانها وقال: سأعيد على أسماعك، وعلى مسجلك قصيدتي لدمشق شريطة أن تضعها كلها، لا أحب من يسلخ شعري وينتف منه نتف. أخذ نفسا، ورفع كفا في الهواء كأنه على قمة قاسيون، يحيي دمشق التي أتعبت التاريخ، وامتدت في الجغرافيا إلى الأقصيين: الصين وفرنسا، وجرحت فؤاده ببعدها، وبنشيجها تحت تعذيب جلاوذة ينحرون فيها بديعها، وينضون عنها عطر الياسمين، ويسوقونها إلى سوق النخاسة كسبية تباع بسعر غانية رخيصة.

ها هي الشام بعد فرقة دهر                                أنهر سبعة وحور عين

آه يا شام كيف أشرح ما بي                                     وأنا فيك دائما مسكون

يا دمشق التي تفشى شذاها                             تحت جلدي كأنه الزيزفون

قادم من مدائن الريح وحدي                     فاحتضني كالطفل يا قاسيون

هل مرايا دمشق تعرف وجهي                      من جديد أم غيرتني السنون 

يا زماناً في الصالحية سمحاً                              أين مني الغِوى وأين الفتون

يا سريري ويا شراشف أمي                                يا عصافير يا شذا يا غصون

يا زواريب حارتي خبئيني                                         بين جفنيك فالزمان ضنين

واعذريني إذا بدوت حزينا                                      إن وجه المحب وجه حزين 

أهي مجنونة بشوقي إليها                                  هذه الشام أم أنا المجنون؟

 يا عاشق الشام لاتلمني إن عشقتها بعدك، عشق أديمها يجمعنا، نعزف على أوتار الروح مغناها، ظَلمها الذي لم يطرب لمعناها. هو الشعر، من عُقد سحرها، والكلمات من أكمام زهرها.. هي دمشق الفيحاء يفوح عطرها فيضوع هواها وهوانا.

كان الوداع كوداع دمشق، حرقة في القلب، وعقدة في الأحشاء. مشيت كالمسرنم ساهيا، الشعر يزِن في أوزانه على مسمعي، والقافية ترن بنغمتها على أوتار الروح. علمني نزار أن الحياة مصنوعة من فسيفساء الآلام والأيام.. غنمت منه مغنما بأوساع لا تحد، وأبعاد لا ترى. كلامه البليغ كان ضربا من السحر حرر في ذاتي بعدا مكنونا، قزم أمام هرم، مد يده يصافحني وعلى شفتيه كلمات ليست كالكلمات صبها فتحت كفي ألتقطها فحلقت فراشات...