لا تفارقني تلك اللحظات التي شاهدت بها أول حالة تشييع للشهداء في درعا بتاريخ 19 من شهر آذار/مارس في عام 2011، كيف كانت الوجوه غاضبة تطالب بالثأر للشهداء والقصاص العادل من القتلة، كيف تجمع عشرات الآلاف من المتظاهرين في تظاهرة هي الأولى لي ولربما الأولى للمئات من الموجودين، رغم أنني حاولت قبلها بيوم دخول المدينة ولم أشهد الحدث عن قرب، فأجهزة الأمن رفضت اقترابنا من الحدث، هذا اليوم الذي شاهدت عن قرب أعدادا كبيرة غاضبة، شاهدت أيضاً أجهزة الأمن متمترسة بعتادها الميداني ومدججة بسلاحها الكامل.
أهازيج الثورة والأجهزة الأمنية!
فبعد أن نوديّ لصلاة الظهر، اجتمعت الأعداد الكبيرة في الساحات، ما أن انتهى الإمام "أحمد الصياصنة" من الصلاة حتى تدافع الجمع، وعلت الأصوات، بكلمات يرددها الجميع إلى الآن" الله، سورية، حرية وبس.. الموت ولا المذلة"، على مقربة من الأجهزة الأمنية تجولت مع المتظاهرين، وبدأنا بالهتاف للشهداء ولسوريا، كان الجميع يعتقد أن الثورة ما هي إلا أياماً معدودة، أو أشهر إن طالت الثورة!، فما الحال بمصر وليبيا وتونس عن سورية ببعيد.
شريط الذكريات في غمضة عين!
قبل أن تغرب الشمس توجهنا إلى مركز انطلاق الحافلات، جرت العادة أن نصل إلى مركز القطارات خلال دقائق، إلا أن استخدامنا للطرق البعيدة، وتواجد أعداد الأجهزة الأمنية في الطرقات للتأكد من السيطرة الكاملة على المدينة، جعلتنا نُفتش ثلاث مرات خلال عشر دقائق من قبل الحواجز الأمنية، وبمسافة لا تتجاوز 2 كيلو متر.
هذه الحواجز جعلت شريط الذكريات لحياتي يعاد خلال هذه اللحظات أكثر من مرة، كيف انقضت اللحظات الأخيرة في ظل هذا التوتر، والنظرات المشمئزة من قبل رجال الأسد على الحواجز، فمن المؤكد أنهم يعرفون تماماً أن جميع من دخل المدينة في هذا اليوم، هم متظاهرون جاؤوا إلى الساحات ليرفعوا أصواتهم في زمن كممت الأفواه، فالطرفة الدارجة في ذلك الزمان، أن الشعب السوري لا يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، نوعاً من تسلط الأجهزة الأمنية، وكثرة المعتقلين في السجون.
الثورة والثوار وكلمة الحق!
بعد عشر سنوات من خروج الأعداد الكبيرة في وجه النظام، استمرت الثورة رغم الانتكاسات والخسائر التي لحقت بها، فمن خرج في الأيام الأولى، أغلبهم إما قد هُجر إلى مناطق بعيدة عن مكان الصرخة الأولى التي صدحوا بها بأعلى أصواتهم من أجل من سبقهم ليعطر الأرض بدمائهم أو قد التحقوا بمن فارقهم تحت الأرض.
الشهداء واليوم الأول للثورة هو الحدث الأهم في هذا القرن، فلولا الشهداء لما استمرت الثورة إلى يومنا هذا ولولا الثورة لما قامت للشعوب العربية في الزمن القريب ولا البعيد قائمة، هذه الثنائية، التي فرضت أن تبقى للثانية دورها، حيث يعتبر الشهيد روح الثورة، والمظاهرات جسدها.