قويق النهر الذي لم يكن نهراً عادياً، ولم يرتوِ منه أهل حلب! إلا الوجع، النهر الذي ارتبط اسمه في ذاكرة الحلبيين كمكان للصرف الصحي والأوساخ، وبقايا المعامل ونفاياتها، النهر الذي كان حربةً لكلّ المحلتين الذينَ مرّوا على المدينة الأقدم، هو ذاته النهرُ الذي أبكاهم كثيراً، من عطش الحقول جنوبي حلب، وبساتينها، إلى عطش الأفئدة التي حُرمت حقّ البكاء والنّواح على من فقدوا من شبابهم ونسائهم، وأطفالهم.
النهر الذي لا ضفاف له، لم يكن نهراً في ذاكرة الحلبيين! بل كان موتاً متدفقاً، ورعباً لا وصف له.
في عام 2012 أغلق نظام الأسد تدفق المياه إلى النهر ليقول لأهالي المدينة الثائرة ستموتون عطشاً، فلا ترفعوا رؤوسكم، ولا تثوروا، تقول الحكاية: إن العثمانيين أيضاً أغلقوا منابع المياه على هذا النهر لتجف بساتين حلب ويموت شجرها عطشاً، هكذا كانت صراعات الحروب، ولعنتها، لكنّ نظام الأسد، وحلفاءه، ومجرميه قتلوا أهل حلب وأغرقوهم في النهر، مكبلي الأيدي، ليبقى اسمه مرتبطاً بالموت في ذاكرة الحلبيين.
اليوم هي الذكرى التاسعة لأكبر مجزرة في تاريخ حلب، (مجزرة نهر قويق) حلب الحضارة والتاريخ، والفن، وعاصمة الشعراء والأدباء، كانت على موعد في مثل هذا اليوم 29كانون الثاني 2013، مع رائحة الموت؛ الأم التي فقدت ابنها قبل يوم واحد، ركضت نحو النهر ذاهلة، تفتش عن ابنها بين الجثث الملقاة على الأرصفة الإسمنتية، وتقول في سرّها ليته يبقى معتقلا!! العائلة التي فقدت طفلاً أثناء رجوعه من مدرسته أيضاً تلقفت الجثث باحثةً عن أحد يشبهُ ملامحَ ابنهم دون جدوى.
كانت الجثث بلا ملامح، فطريقة القتل أبشع مما يتصوّرها بشريّ على وجه المعمورة، أغلب الجثث بحسب رواية الشهود والتحليل الشرعيّ، قُتلت وهي معصوبة العينين، مكبلة الأيدي للخلف، وطلقة واحدة في الرأس من الخلف كانت كفيلة لتحدث تشويهاً كاملاً لملامح الضحايا!!
أيُّ قهر يحمله النهر الفسيح لذاكرة الحلبيين؟!، وأيّ وجع تخبئه العائلات بصمت يحرق المهج، ما يزيد على 150 جثة ملقاة على جانبي النهر، في بداية الأمر أبلغ أحدُ المواطنين عن جثةٍ تطفو على سطح مياه شحيحة، كان الانطباع الأولي عن غريق لقي حتفه، لم يخطر ببال أحدٍ حجمَ الكارثة وهولها.
في حي بستان القصر، والأحياءِ القريبةِ منه، عشرات الجثث ظهرت بعد وقت قصير! وعلى مدى شهرين متتاليين فرق الإنقاذ وذوي الضحايا والمفقودين يبحثون عن أولادهم.
النهر الذي يأتي مجراه من مناطق سيطرة النظام، إلى مناطق سيطرة المعارضة كان يحمل جثث الضحايا لعائلاتهم، كان الاستقبال مؤلماً، والحدث كبيراً، تقول الاحصائيات: إن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير، هذا ما تمّ توثيقه، أو ما تمّ العثور عليه من جثث تفسخت وتلاشت أعضاؤها في سراديب النهر القاتل.
من بين الضحايا الممزقة جثث لأربعِ نساء أُغتصبن قبل قتلهن، واحدة منهن كانت حاملاً في شهرها السابع، وضحايا لأطفال، وموظفين كانوا يعبرون الحواجز القريبة ليلتحقوا بوظائفهم، منهم من اعتقل على هذه الحواجز، ومنهم من كان موقوفاً في فرع المخابرات الجوية والأمن العسكري.
المخابرات الجوية التي كانت تأخذ أوامرها من أديب سلامة رئيس فرع المخابرات الجويّة، أحد رؤوس الإجرام في محافظة حلب، والذي ارتبط اسمه بمجزرة حي صلاح الدين والخالدية 2012، ومجزرة حيّ الصّاخور 2013، والإعدامات الميدانية شرقي حلب، ومجزرة نهر قويق الذي يعتبر المشهد الذي أدمى قلوب الحلبيين.
لم تكن حادثة نهر قويق مجزرةً فحسب، إنها رسالة نظام الإجرام لكلّ السوريين وقتها، التمثيل بالجثث، وحرقها، واغتصاب النساء، كانت المشهد الصريح، والعبارة الواضحة لماهية هذا النظام، وأفرعه الأمنية لبثّ الرعب في قلوب الثائرين، والحالمين بالحرية، والمطالبين بأدنى حقوق العيش.
النهرُ الذي أصبح دماً، سيعيش مع ذاكرة السوريين جميعاً، والحلبيين على وجه الخصوص، سيذكرون حتماً ذلك الموت الذي كانَ نهراً.