لا تحتاج لكثير من الوقت كي تعود أدارج خيبتك نحو الوراء، إنّها لعنة الذكريات، أو ربما كومة الأحزان المتلاحقة التي تحملها في جيوبك المنبوشة، وقد تكون إرثاً ثقيلاً يُلاحقك كظلك.
لا يخجل، هذا الأزرق الافتراضي، عن اقحام نفسه في خصوصيات روّاده، زد على ذلك نكئ الجراح، وللسوريين على امتداد الجرح واتساعه ذاكرة كبيرة من المآسي، التي تثقل كاهلهم، لربما لم يتبقَ لهم سوى هذه الذكريات، وخيبات كثيرة، في بلاد اللجوء، وفي مناطق سيطرة النظام، وفي الشمال السوري، وشرقه، حيث القهر، والخوف.
هذا الأزرق اللعين، يطلّ علينا في نافذة لاسترجاع ذكرياتنا بتنسيق ثلاثي الأبعاد!، فلكم أن تتخيلوا الوجع السوري بتنسيق ثلاثي الأبعاد!!، كم هو مبهر ورائج على موائد الدول، والزوايا المظلمة التي أُحيكت بها تفاصيل الحكاية، حكاية القهر، والوجع، والطعنات.
في ريف دمشق ومع انطلاق الحراك المسلح، اضطر المنشقون عن النظام من ضباط، وصف ضباط، ممن لم يستطيعوا التواري أو الهروب، الانخراط في عمليات عسكرية غير متكافئة، لا من حيث القوة، ولا من حيث انصافهم وتسليمهم زمام الأمور، أحمل في ذاكرتي من هذا المكان أمّاً فقدت أبناءها الخمسة، اثنان منهم ضباط منشقون، أولهم في معركة " حاجز دروشة" وثانيهم، في معركة لواء المدفعية، وثالثهم في القصف، ورابعهم وخامسهم في معارك القنيطرة!
كانت هذه الأم تغيب عن الوعي كثيراً، تستيقظ تنظر حولها، وتسأل عن أبنائها، لقد جفّ الدّمع في مقلتيها، ولم يبقَ لها إلا زوجها الطاعن، وصور أبنائها، وأشيائهم!!
في ذاكرتي بتنسيق ثلاثي القهر، أحمل صوراً لثلاثة أطفال قضوا تحت الركام، لم يتسن لي لملمة أشلائهم!، كانَ القصف مستمراً وعنيفاً، والأب من هول الصدمة لم يحتمل، فانخرّ أرضاً، بكينا كثيراً ونحن نحمل كاميراتنا، لم نوثق صوراً فحسب، بل وثّقنا قهرنا وكمدنا.
أحمل في ذاكرتي زوايا الاختباء من القناص مقابل بيتنا، وكيف سدد مقذوفه على رأس أبي، وقذيفة من "تلّ الجابية" قتلت أخي" وأخرى روّعت أمي وأخواتي، أحمل صراخ أمي في جيوبي، ورحلات النزوح تحت القصف والبراميل، وكيف اختبأت بين القبور خوفاً من الشظايا، السوريون في هذا العالم أكثر من حمل ألماً وفقداً وقهراً، وظلماً.
هل من أحد يخبر الفايسبوك أن ذاكرتنا متشحة بالسواد!، اتفاق المدن الأربعة الذي تمّ برعاية دولية من الأشقاء، والأصدقاء، والأعداء، ألغى تاريخاً من الذكريات لهؤلاء السوريين في مضايا والزبداني، وفتح الباب على مصراعيه لأبشع صور التغيير الديموغرافي في تاريخ البشرية!، كيف لذاكرتنا أن تصمد أمام هذا الكم الهائل من الخذلان، مَن يعيد أهالي داريا!؟، ومَن يمحي صور نبش القبور، والانتقام من الأموات!؟، مَن يؤمّن أهالي عفرين، ويعيد لهم ممتلكاتهم من ناهبي التاريخ والثورة!؟
هذه الصور لا يحدوها وصف، ولا تحملها ذاكرة، إنّها حجم هائل من القهر، لا يدركها إلا من أيقن تفاصيلها وعاش لحاظها.
السوريون في دمشق يتناوبون على حاويات القمامة، يقفون في طوابير كبيرة لتأمين رغيف الخبز!، دمشق التي عهدناها تتكئ على الحضارة هي اليوم عرجاء! هي أكثر بؤساً وسواداً.
ذاكرتنا بتنسيق ثلاثي الوجع، تحملُ صوراً للحافلات الخضراء وهي تجوب البلاد، حاملة أبناءها إلى حيث الفجيعة، إلى حيث الحدود التي تسمى " وطناً " حدود مشرعة للموت، واللجوء.
ربما القضايا الكبرى تحتاج لسيل كبير من الدماء، كان السوريون أكثر كرماً مما تخيّل العالم أجمع!!، العالم الذي يسبحُ في دماء السوريين، في المدن المدمرة على أهلها، في حمص، ودرعا، ودير الزور، والقنيطرة، وادلب، والغوطة!، في دماء المعتقلين وأنّاتهم في صيدنايا والخطيب وسعسع، والمسلخ العسكري في المزة، في أشلاء السوريين جراء البراميل المتفجرة، وسلاح الجو!! في أعداد الموتى في البحار ودول اللجوء!
ذاكرتنا بتنسيق ثلاثي الوجع ممزقة، بين عصابة مارقة، ومرتزقة، ومعارضة فاسدة، ورماديين، ومارقين، وبين حسينيات تبنى على أنقاض المساجد وبقايا المآذن، وبين رايات تنادي بدم الحسين، إنّها ذاكرة جرحٍ غائر، لا ضماد له! جرحٌ بمساحة وطن، وطنٌ لا حدود ترابية يعرفها السوريون جيداً، تراب، وماء، وهواء، وذكريات، وأشياء معلَّبة وضعت لنا في دفاتر أحلامنا، كالوحدة، والحرية، والعدالة، والمساواة!!