في حضرة حكماء العرب

حكماء العرب وزماننا
حكماء العرب وزماننا


جذبتني أنوار المدينة ليلا، طفقت أجول شوارعها وساحاتها. النخيل يرقى أسباب السماء، ويدلي بعناقيد تمره من أذنيه، كأقراط غجرية فاتنة. في منعطف طريق. أوقفني شيخ جليل يسعى سائلا: ماذا أنت فاعل في هذه المدينة يا بني؟

أجبت: أبحث عن وجهها المنير. نظر إلي نظرة حزينة وقال:

- هلا بحثت عن وجهها المعتم. للحقيقة وجهان والثلج أسود.

سألت متعجبا:

- هل لها وجه آخر غير هذا الوجه الجميل؟

أخذ بيدي إلى عتمة المدينة، فإذا بقابيل يفتك بهابيل. ولا أحد يصد قابيلا، ولا أحد ينجد هابيل. وإذا بقارون يكنز ذهبا وفضة مفاتيحها تنوء بالعصبة، وآلاف مؤلفة شهر الجوع عليهم سيفه. وإذا بعسكر السلطان تجول كل مكان، تعتقل أي لسان، وتمارس البغي والفسق والطغيان.

 سألت الشيخ الجليل:

- ما الحل لحالنا؟ قال :

 - لا تسلني. سل حكماء العرب.

 - أين أجد حكماء العرب؟

 - سألبسك طاقية الإخفاء وتجول في الزمان و المكان.

ألبسني إياها، فإذا بي بمجلس كبير يضم حكماء العرب يتصدرهم أبو العلاء المعري. أخذ بيدي، وقال متوجها للمجلس:

- جاءكم صحافي من عرب الانحطاط، من القرن الواحد و العشرين، عرب الخنوع، والركوع، وعرب الفساد والاضطهاد، عرب يعلو فيهم السفهاء، وينخفض الأعزاء الكرماء. عرب الخزية والفرية، عرب العار والدمار. يسألكم فأجيبوا.

- قلت : يا رهين المحابس الثلاثة ما رأيك في حالنا؟

فكر طويلا ثم قال:

مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجاروا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها.

علي يساري جلس المتنبي ينظر شزرا. فقلت:

- يا أبا الطيب ما رأيك في حالنا؟

أطرق مفكرا و قال:

إنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم

ثم استطرد قائلا:

لا الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفكم

ولا السيف ولا الرمح ولا القرطاس ولا القلم

ولم يتم كلامه حتى دخل بن يوسف الثقفي

فقلت: والله إنه الحجاج

- يا أبا يوسف كيف ترى حالنا؟

فهز بسيفه وقال:

يا معشر العرب يا أمة اللهو والطرب

أمم تصل القمر وأنتم أبدا بين الحفر

ثم استل سيفه وراح يصيح:

إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، ووالله إني لصاحبها.

فهربت أمامه أطلب النجاة صارخا: أيها الثقفي، أتحسب رؤوس الناس رؤوس بطيخ. وتحول الحجاج إلى الطاغية الذي عاث في البلد فسادا وراح يطاردني ويقول غاضبا: إن رأسك أول بطيخة حان قطافها.

قلت: تلاحقوننا حتى في الحلم.

 هوى بسيفه على رأسي فاستيقظت مذعورا، مرتعد الفرائص والأوصال رعبا. ولازمني هذا الكابوس ليال وليال. فقلت لابد من طبيب نفسي يصف دواء لهذا الداء.

 عندما أخبرته عن حالي سألني: ما مهنتك؟ قلت صحافي

نظر إلي وقال : أتسمي هذه مهنة. لقد امتهنها كل من هب ودب، لا يعرفون من المهنة سوى المنابذة، والمناكفة، وخدمة السلطان وما يملأ الجيب. هذه ليست صحافة هذه سخافة. ثم استطرد قائلا: إن أفضل دواء لك أن تقلع عن هذه المهنة في هذا البلد، وأن لا تبحث عن وجه المدينة المعتم. وعن الحقيقة في وجهها الآخر. فالثلج في بلادنا دائما أبيض.