(عن القدس العربي)
من الصعب وضع الساق على الساق لمن أصيب “بالفتاق” ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أصيب بالفتاق مرتين، وفي كل مرة كانت بعد حرب على غزة: الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 بعد عملية عمود السحاب، والثانية بعد عملية طوفان الأقصى قد أخفق في كل ما قال. ويبدو أن غزة نذير شؤم على زعماء إسرائيل، فاسحق رابين كان يتمنى”أن يستيقظ ذات يوم من النوم فيرى غزة قد ابتلعها البحر”، ووزير التراث عميحاي إلياهو يطلب أن تقصف بقنبلة نووية، واليوم نتنياهو يتمنى أن يمحي أثرها عن بكرة أبيها ليحقق النصر، فبسببها فقد كل ما بناه من مجد سياسي في هزيمة ستلاحقه حتى القبر. فوضع الساق على الساق في لغة الجسد، في مواجهة شخص آخر في أحد معانيها هي الرغبة بالسيطرة، أو شعور الشخص أنه ذو سلطة على الطرف الآخر. وهذا ما يحاول نتنياهو ممارسته ليظهر نفسه، كما يفعل رؤساؤه في أمريكا عندما يستقبلون نظراءهم من الدول الأخرى أن يظهروا أنهم أسياد العالم بلف الساق على الساق، بينما نرى النظير جالسا يضم ساقيه احتراما أو رهبة، فنتنياهو في الواقع يعتبر نفسه سيد العالم أيضا لأن العالم بنظره، ونظر العقدة اليهودية أنه من شعب الله المختار، وأن الله خلق الخلق جميعا ليكونوا خدما لبني إسرائيل كما يرددون، ونتنياهو يعتبر نفسه أيضا سيد إسرائيل، فلا يوجد ما يوازيه من زعماء تعاقبوا على هذا المنصب في هذا البلد المغتصب سوى المؤسس دافيد بن غوريون.
وهذه النظرة إلى نفسه ربما هي التي جعلته يفقد الصواب خلال الأشهر الستة الماضية حيث تعرض لهزة عنيفة عندما استيقظ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على وقع عملية طوفان الأقصى.
في البدء مع غزة كانت كلمة صداع هي المستخدمة لدى زعماء الاحتلال حتى قبل حماس، ففي اتفاقية أوسلو حاولت إسرائيل أن تتخلص من غزة أولا، فكان عنوان الاتفاقية غزة – أريحا أولا، وبهذا فتتخلص من الشقاق والشقيقة. لكن صدع غزة لم يرأب فاستمر الصداع مع تصاعد الصراع، فما كادت تنسحب من القطاع في العام 2005 حتى استفاقت على كابوس جلعاد شاليط المختطف من الجيش الإسرائيلي من قبل حماس، ومع سيطرة حماس على القطاع في 2007 أعلنت إسرائيل القطاع:” كيانا معاديا”.
ففي كانون الأول/ ديسمبر من العام 2008 شنت عملية الرصاص المصبوب لإنهاء حكم حماس لغزة، والبحث عن شاليط، فواجهتها حماس بعملية “الفرقان” ففشلت عملية الاحتلال باستخدام ألف طن من المتفجرات بتحقيق الهدفين: القضاء على حماس، وتحرير شاليط، فحماس بقيت صامدة، ولم تسترد شاليط “ولا ماليط”. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 شنت إسرائيل عملية”عمود السحاب” لتدمير منصات الصواريخ الحمساوية، فردت حماس بعملية “حجارة من سجيل” فوصلت صواريخها إلى تل أبيب، ثم تطورت كما ونوعا.
في تموز/ يوليو 2014 أطلق نتنياهو عملية “الجرف الصامد” لتدمير أنفاق غزة، فردت حماس بـ “العصف المأكول” واستمرت حوالي الشهرين شنت خلالها 60 ألف غارة على القطاع، فلم تدمر الأنفاق بل تمددت في كل الاتجاهات في جميع أنحاء غزة كشبكة عنكبوتيه أدخلت جيش الاحتلال في متاهة كبيرة. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 أطلقت حماس عملية “معركة صيحة الفجر” بعد عملية اغتيال القيادي وعائلته بهاء أبو العطا بغارة إسرائيلية أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع إسرائيلية.
في العام 2021 اندلعت اشتباكات بين مستوطنين إسرائيليين وفلسطينيين بعد أن اقتحموا حي الشيخ جراح، واقتحام المسجد الأقصى، فقامت حماس بإطلاق معركة: “سيف القدس” بإطلاق آلاف الصواريخ في العمق الإسرائيلي، وأطلقت دولة الاحتلال اسم: “حارس الأسوار” عليها. في شهر آب/أغسطس من العام 2022 قامت دولة الاحتلال باغتيال القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي بسام السعدي في عملية أطلقت عليها “الفجر الصادق” وردت حركة الجهاد بعملية تحت اسم “وحدة الساحات” لأنها كانت بمشاركة فصائل فلسطينية أخرى، وتم خلالها قصف العديد من المدن داخل دولة الاحتلال. في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر انطلقت عملية “طوفان الأقصى” التي أدخلت العالم أجمع في طوفان سياسي، وجماهيري، واجهته إسرائيل بعملية تحت مسمى:”السيوف الحديدية”، هذه العملية أدخلت الإدارة الأمريكية والكابينت الإسرائيلي في هيستيريا غير مسبوقة، أدت إلى مقتل وإصابة عشرات الآلاف من الغزيين، وتدمير هائل للبنى التحتية والمناطق السكنية، وتشديد الحصار لقتل الناس جوعا وعطشا. وأحدثت صدعا وصداعا كبيرا في صلب الإدارة الأمريكية، وفي الاتحاد الأوروبي، وفي الكابينت لدولة الاحتلال، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، فعقدة غزة لم تنته فصولا بعد.
فتاق سياسي
علاوة على الفتاق الجسدي، أصيب نتنياهو بفتاق سياسي عميق فإذا تم رتق الأول، فربما من الصعب رتق الثاني. فعلى المستوى العالمي انضمت كولومبيا إلى بوليفيا وبنغلاديش وتركيا إلى جنوب افريقيا في دعوتها ضد إسرائيل لمحكمة العدل الدولية. غوتيريش طالب إسرائيل بالكشف عن أسباب مقتل 196 موظف إغاثة في غزة، محامون حقوقيون يرفعون دعوى عاجلة لوقف تصدير الأسلحة الألمانية لإسرائيل، 115 برلمانيا فرنسيا يطالبون ماكرون بوقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل. مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان يتبنى قرارا يحظر تصدير السلاح إلى إسرائيل، ويدعو لمحاسبتها على جرائم في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إسرائيلية مدمرة منذ أكثر من نصف عام، إدانة دولية لمقتل سبعة عمال إغاثة في المطبخ العالمي.
منظمة الصحة العالمية تندد بالهجوم على مستشفيات غزة، وتدمير مشفى الشفاء، تنديد دولي بتشديد الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. مظاهرات حاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية نصرة للفلسطينيين، دول عدة قطعت علاقاتها مع إسرائيل، أو استدعت سفراءها للتوبيخ بسياستها وحربها الهمجية على غزة.
تتصاعد حدة التوتر في الداخل الإسرائيلي التي بدأت بمظاهرات لإبرام صفقة تبادل الأسرى مع حماس، بعد ما تبين أن الجيش الأقوى في الشرق الأوسط لم يتمكن من تحريرهم حسب ما وعد صاحب الفتاق بعد ستة أشهر من الحرب، ثم تحولت إلى مظاهرات تطالب بانتخابات مبكرة ليتم التخلص منه والذي يبيعهم وهما كي يحافظ على منصبه ويتحاشى محاكمته، على فشل حكومته في إدارة الحرب، وتحرير الرهائن.
تصاعد حدة التوتر
وأدى هذا التوتر إلى انقسامات واشتباكات في الشارع الإسرائيلي، وهجرة مئات الآلاف، ونزوح مئات آخرين من الشمال بسبب ضربات حزب الله. وحوصرت تجارتها في البحر الأحمر من قبل الحوثيين، فالمعارضة الإسرائيلية تصاعدت تخوفاتها بشكل كبير، ويتوجه رئيسها يائير لبيد إلى واشنطن لإجراء محادثات مع الإدارة الأمريكية بعد الخلاف بين نتنياهو وبايدن. بل وصلت تخوفات المعارضة، والعديد من المراقبين أن عملية طوفان الأقصى، والحرب على غزة، وعدم تحقيق نتنياهو وحكومته أهداف الحرب المعلنة: (تحرير الأسرى، القضاء على حماس، والنصر المبين) أو بعبارة أخرى خسارة الحرب، دفعتهم للتفكير أن مستقبل إسرائيل أصبح على كف عفريت. فقد نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في فترة زمنية متقاربة جملة تحذيرات صادرة عن أبرز قادة الدولة، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحافية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة. إذ أكد رئيس الوزراء المستقيل، نفتالي بينيت، للإسرائيليين “أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق”
كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحافي مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد أنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود” واستحضر باراك في ذات المقال نماذج لدول أصابتها “لعنة العقد الثامن”؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفييتي وانهار.
أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد أن التهديد الأكبر يتمثل بالإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة اللاعودة.
الكاتب، يغئال بن نون يقول: إن “المزيد من الإسرائيليين تظهر عليهم علامات القلق الدالَّة على اليأس، ويتقدم الكثير منهم للحصول على الجنسية الأجنبية، حرصًا على مستقبل أطفالهم، لأن بعضهم يقول بصوت عالٍ: إن إسرائيل لن تكون موجودة لفترة طويلة، وإن إقامتها من الأساس كانت مغامرة فاشلة، ولذلك يعيشون حالة متشائمة، ويحثون أنفسهم وغيرهم على الهروب قبل وقوع الكارثة”. هذه المرة يبدو أنها ليست لعنة الثمانين بل لعنة غزة.
كاتب سوري