(عن القدس العربي)
في 12آذار/ مارس تناقلت الصحف العالمية قرار المدعي العام السويسري بمحاكمة رفعت الأسد عم رئيس النظام السوري بشار الأسد بتهمة “ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” على إثر وقائع ما عُرف بـ “مجزرة حماة” في ثمانينيات القرن الماضي.
وما انفك اسم رفعت الأسد يتردد في الصحافة وأروقة المحاكم الأوروبية، فأوروبا التي احتضنته بداية، وغضت الطرف عن كل الجرائم الإنسانية التي ارتكبها في سوريا، والقانونية والمالية في أكثر من دولة أوروبية، كأنها استيقظت من غفوتها متأخرة لتدينه اليوم على كل جرائمه. وإن كان الرجل غنيا عن التعريف، لكن لا بد من تسليط الضوء على شخص كان يوما سيحكم سوريا لو نجح في الانقلاب على أخيه مؤسس “السلالة الأسدية” في حكم سوريا منذ نصف قرن ونيف.
حكاية الصعود والهبوط
تعود حكاية صعود هذا الشخص، المولود في القرداحة إحدى القرى (العلوية) في محافظة اللاذقية في العام 1937، الذي كان جل ما يحلم به أن يكون ضابطا في الجيش، إلى العام 1970 عندما استولى أخوه حافظ الأسد على الحكم في سوريا بانقلاب عسكري على رفاقه فيما سمي “باللجنة العسكرية” ليصعد بسرعة فرط صوتية ليصبح الرجل الثاني في الدولة كنائب لأخيه رئيس الجمهورية. لكن المنصب الأهم والأخطر الذي حظي به هو تشكيل جهاز عسكري رديف للجيش تحت مسمى “سرايا الدفاع” بلغ تعدادها حوالي 55 ألف عنصر، مهمتها الدفاع عن النظام (وليس الشعب)، التي تحولت لأداة ارتكاب أولى المجازر في سوريا، وترويع الناس وخاصة في دمشق، حيث كانت تنتشر وحدات السرايا في الشوارع لتجريد النساء من أحجبتهن بالعنف “لتعليمهن الحضارة”، (حسب ما روى نجل رفعت الأسد المعارض فراس الأسد الذي كان شاهدا على الحدث في بودكاست نشره مؤخرا) كما أسّس “الرابطة العليا للخريجين”، والتي أصبحت كياناً طلابياً عسكرياً موازياً لـ”سرايا الدفاع”، وعُيّن في ما بعد رئيساً لمكتب التعليم العالي بالتزامن مع تعيينه رئيساً للمحكمة الدستورية).
في العام 1980 وبعد محاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد اتهم الإخوان المسلمون بالتخطيط لها أعطي الأمر لهذه السرايا بالتوجه إلى سجن تدمر الرهيب والاجهاز بدم بارد على أكثر من ألف سجين سياسي فيه. (تم الاعتراف من قبل عنصرين من السرايا قبضت عليهما المخابرات الأردنية كانا قد أرسلا بمهمة اغتيال رئيس الوزراء الأردني مضر بدران في العام نفسه بأنهما شاركا في هذه المجزرة). لكن الصراع مع الإخوان المسلمين لم يتوقف معها، ففي 2 شباط/فبراير1982 قامت سرايا الدفاع بحصار مدينة حماة (حيث كان عدة مئات من عناصر الإخوان متحصنين فيها)، باستباحتها وقصفها بالطائرات والمدرعات خلال شهر كامل، وكانت الحصيلة تدمير جزء كبير من المدينة وقتل عشرات الآلاف من السكان المدنيين، ونهب ممتلكاتهم، وارتكاب عمليات اغتصاب، وقتل الأطفال، وإعدام الرجال ميدانيا.
في العام 1984 وخلال فترة مرض حافظ الأسد حاول رفعت الانقلاب على أخيه فكانت القطيعة بينهما والهبوط بالسرعة نفسها التي صعد بها، وتم طرده من سوريا (بعد إفراغ محتويات البنك المركزي، مع تعويضات مالية لمرافقيه، و100 مليون دولار كقرض من معمر القذافي لحافظ الأسد لإخراج أخيه من سوريا، بالإضافة إلى مسروقات الآثار السورية والمتاجرة بالمخدرات).
استقبال أوروبي
كانت الوجهة الأولى للمطرود من سوريا فرنسا التي استقبلته (رغم علمها وعلم كل دول الغرب بالجرائم المرتكبة وخاصة حماة حيث ورغم الحصار الذي ضرب على المدينة والتعتيم الإعلامي على المجزرة الرهيبة نجح الصحافي الفرنسي سورج شالاندون بالدخول متخفيا إلى المدينة ونشر مشاهداته المريعة في صحيفة ليبراسيون الفرنسية والتي تناقلتها أكثر من صحيفة أوروبية) الأموال التي دخلت فرنسا سرعان ما تحولت إلى ممتلكات عقارية (قصر في جادة فوش العريقة بمساحة 6000م2، مبنى كامل بأربعين شقة في جادة كنيدي مقابل مبنى الإذاعات الفرنسية على نهر السين، مزرعة كبيرة للخيول في ضاحية فال دواز الباريسية، ومكاتب في مدينة ليون قدرت بحوالي 100 مليون يورو)، وقام بتأسيس صحيفة الشام، ومجلة الفرسان المعارضتين لحكم أخيه تحت شعار “التضامقراطية”، وفي لندن أسس قناة “إي إن إن” التلفزيونية، وامتلك عقارات في “ماي فير” وضاحية “ليذرهيد” قدرت بحوالي 50 مليون جنيه، وفي إسبانيا تملك أكثر من 500 منشأة من مطاعم وفنادق وقصور في منطقة ماربيلا السياحية قدرت بحوالي 700مليون دولار، وفي سويسرا أودع أموالا في بنوكها، وعقارات يقطن أحد أبنائه الـ 16 من زوجاته الأربع فيها. وأسس شركات وهمية في الملاذات الضريبية لتبييض الأموال.
بداية الملاحقات
بدأت الملاحقات بعد أن تيقظت فرنسا في العام 2020 (بعد 35 سنة من استقباله) باتهامه “بالاحتيال والإثراء غير المشروع”، حيث أصدرت المحكمة الابتدائية حكماً بسجنه 4 سنوات ومصادرة العقارات التي يملكها في فرنسا، كما أدانته محكمة الاستئناف في باريس بتهمة الاحتيال الضريبي وتشغيل أشخاص بشكل غير قانوني عام 2021، ومصادرة جميع العقارات الخاصة به التي اعتبرت أنه حصل عليها عن طريق الاحتيال. ففر من فرنسا في شهر تشرين الأول/ أكتوبر2021 وعاد إلى سورية بعد 37 سنة في المنفى باتفاق صلح مع ابن أخيه بشار وإنهاء القطيعة مع النظام شريطة عدم ممارسة أي نشاط سياسي.
الحكم الأكبر على رفعت الأسد جاء من قاضي المحكمة الوطنية الإسبانية الذي حكم بالسجن لمدة 56 سنة له ولثمانية من أبنائه واثنتين من زوجاته بتهمة الانتماء إلى تنظيم قام بغسل أكثر من 600 مليون يورو في إسبانيا، وقال إن رفعت قد جمع بين عامي 1986 و2005 ما مجموعه 507 عقارات بقيمة 695 مليون يورو.
وهي موزعة ما بين أماكن لوقوف سيارات اشتراها في وقت واحد في عام 1986، بالإضافة إلى منتجع “الأندال” في بورتو بانوس، في مقاطعة مالقة الإسبانية، حيث يمتلك عملياً جميع المنازل، واستخدم من أجل غسل الأموال شركات خارجية موجودة في جزر البهاماس، وجبل طارق وبربادوس، من بين بلدان أخرى. وأضاف أنه بجانب هذا المبلغ سابق الذكر، حصل رفعت الأسد في السبعينيات على أموال أخرى غير مشروعة من أنشطة إجرامية مثل الابتزاز والتهديد والتهريب ونهب الآثار واغتصاب ملكية العقارات وتهريب المخدرات. (كان معلوما للقاصي والداني أنه كان يمتلك مرفأ خاصا استخدمه لتهريب البضائع بين لبنان وسوريا، ونهب الأعمال الفنية، والتراث التاريخي في سوريا، ورعاية التنقيب غير القانوني عن الآثار، وبيع ما يحصل عليه سراً، وتقدر ثروته بحوالي 4 مليارات دولار، ويمتلك يخوت وطائرة خاصة بوينغ727).
وأصدر الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار 2023 عقوبات متعلقة بتجارة المخدرات، وانتهاك حقوق الإنسان على ابنه مضر من زوجته أميرة الأسد.
وفي بريطانيا، أصدر الادعاء البريطاني قراراً يقضي بتجميد أصول بملايين الجنيهات الإسترلينية تعود لرفعت الأسد في بريطانيا، ومنعه من بيع منزل يمتلكه في منطقة “ميفير” قيمته 4.7 مليون جنيه إسترليني، (وكشفت وثائق بريطانية أن رفعت الأسد لجأ إلى بريطانيا في العام 1986 وطلب من حكومتها المساعدة في مسعى للإطاحة بأخيه حافظ لكن بريطانيا رفضت مطلبه). لكن كل هذه الأحكام التي انحصرت في جرائم مالية، وتهريب مخدرات وآثار وسواها إلا أنها لم تحاكمه على الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، وحدها سويسرا تحاكمه بالتورط في جرائم حرب بسبب مجزرتي سجن تدمر وحماة. وتعود بداية القضية التي رفعت ضده إلى العام 2013 ويتم تفعليها الآن، وسيحكم عليه غيابيا.