(عن القدس العربي)
أثارت الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قنصلية إيران في دمشق وأسفرت عن مقتل 7 قادة ومستشارين أبرزهم العميد بـ”الحرس الثوري” الإيراني، محمد رضا زاهدي ونظيره بذات الرتبة حسين أمان اللهي ردود فعل غير مسبوقة، وتهديدات إيرانية بالرد إذ قال الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي إن “إسرائيل النظام الشرير ارتكب خطأ ويجب أن يعاقب، وسيعاقب” وجاء الرد سريعا عاصفا لأول مرة مباشرة من طهران برشقات صاروخية وطائرات مسيرة.
جهنم في الشرق الأوسط
وهذا التصعيد غير المسبوق سيدفع إسرائيل للرد، لأن رد الرد يمكن أن يكون أقسى وأقوى من الرد ويفتح باب جهنم في الشرق الأوسط، وربما هذا ما تبحث عنه حكومة نتنياهو لتوريط أمريكا مرغمة في حرب لا رغبة لها فيها. خاصة وأن أمريكا كان لها الدور الأول في إيصال الخميني إلى سدة الحكم في طهران، بالتخلي عن شاه إيران وتحييد جنرالاته من الجيش. (والإشراف على إخراج الشاه وعائلته من إيران إلى منفاه، وإعطاء الضوء الأخضر للخميني للاتجاه إلى طهران حيث أقلته طائرة فرنسية ليتسلم زمام السلطة في إيران) وفتحت لها الباب عريضا للهيمنة على العراق، ولأن توسيع دائرة الحرب ربما ستزج بقوى أخرى لها وجود مركزي في المنطقة ومتحالفة مع إيران كروسيا التي ربما تستغل هذه الفرصة أيضا لاستخدامها كورقة إضافية في حربها على أوكرانيا، إضافة إلى ما تجره إلى أضرار بالغة في الخليج خاصة وأن لإيران المقدرة للسيطرة على مضيق هرمز الممر الوحيد لناقلات النفط. (ذكر قائد القوة البحرية في الحرس الثوري الإيراني يوم الثلاثاء أن الوجود الإسرائيلي في دولة الإمارات يمثل تهديدا لطهران، وأنها قد تغلق مضيق هرمز في حالة الضرورة)، ورغم تهديد ووعيد الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه “يقف إلى جانب إسرائيل في أي ضربة محتملة ضدها”، إلا أنه في الوقت نفسه دعا إلى التهدئة إذ طلب الأسبوع الماضي من المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط بريت ماكجورك من وزارة الخارجية السعودية والأمارات وقطر والعراق إيصال رسالة إلى إيران تحثها على خفض التوتر مع إسرائيل.
ما هو موقع سوريا في المواجهات الإيرانية الإسرائيلية؟
بدأت العلاقات السورية الإيرانية تأخذ منحى استراتيجيا مع بدء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي حيث اتخذ حافظ الأسد موقفا مغايرا لكل مواقف الدول العربية بالوقوف إلى جانب إيران ضد العراق الذي كان يناصبه العداء العقائدي (بين الإخوة البعثية الأعداء). مع سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 تحت ضربات الغزو الأمريكي، فتحت الولايات المتحدة التي كانت تسيطر على العراق الباب على مصراعيه لدخول عشرات الآلاف من المعارضة العراقية “الشيعية” التي كانت متمركزة في إيران بكل أطيافها، وآلاف العناصر من الحرس الثوري الإيراني الذين قاموا بالسيطرة التامة على مقاليد الحكم، وتكوين قاعدة تمركز فيه. مع انطلاقة شرارات الربيع العربي في العام 2011، ورغم أن النظام السوري كان يستبعد وصول الشرارة إلى هشيمه إلا أنها، ورغم كل الإجراءات التي اتخذها من قتل وتدمير وضرب بكل الأسلحة حتى الكيماوية منها فالثورة وبعد سنتين من اندلاع شرارتها كادت أن تطيح بالنظام المترنح تحت ضرباتها، وكادت أن تهوي بالوريث بشار الأسد من على عرش سوريا بعد أربعة عقود ونيف من الحكم الأسدي. لم يجد بشار الأسد أمامه سوى حليفين: إيران وروسيا، فقام بزيارة إلى طهران لطلب العون، فقامت إيران بإرسال مجموعة كبيرة من الميليشيات الطائفية الباكستانية والأفغانية والعراقية واللبنانية (فاطميون وزينبيون، أبو فضل العباس، حزب الله العراقي، وحزب الله اللبناني) بالإضافة إلى الحرس الثوري الإيراني ما يسمى اليوم بـ (الحلقة النارية يضاف إليها اليوم حماس والجهاد الإسلامي). ورغم الأعداد الكبيرة لهذه الميليشيات لم تتمكن من قمع الثورة التي استمرت بتهديد النظام جديا، قبل أن يستنجد بشار الأسد بحليفه الثاني بزيارة سرية إلى موسكو في العام 2015، وطلب النجدة المستعجلة من فلاديمير بوتين. ودخلت القوات الروسية في المعركة التي أبقت على النظام السوري واقفا بوهن على قدميه. وعلى مدى السنوات العشر الماضية تغلغلت إيران عسكريا في سوريا في شتى المجالات العسكرية، والاقتصادية والمذهبية (حركة تشييع في مناطق نفوذها في دير الزور وشمال حلب، وريف دمشق، وحمص، والقلمون، ودرعا) وكان الكثير من قادتها يجولون في محافظات البلاد، وعلى رأسهم قاسم سليماني الذي قتل بضربة أمريكية قرب مطار بغداد. وتحولت سوريا إلى قاعدة رئيسية لإيران لأنها كانت الحلقة المفقودة لاكتمال “القوس الشيعي” (طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت) لكن وجود القوات الإيرانية في الأراضي السورية أثار مخاوف دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد أن تبين أن إيران تبني قواعدها العسكرية وتتحصن بأسلحة متطورة، وتزود حزب الله اللبناني بالذخائر والأسلحة والصواريخ. وأطلقت حملتها بتوجيه الضربات تلو الضربات للمواقع الإيرانية، ومواقع حزب الله، بما فيها مطارات دمشق وحلب وميناء اللاذقية حيث يتم تفريغ شحنات الأسلحة والذخائر. ورغم كل هذه الضربات التي تعدت المئة ضربة لم يتم الرد من الطرف الإيراني، ولا من قبل النظام (لأن النظام اعتبر أن هذه الضربات موجهة لإيران وليست له). والتزم بترديد عبارة “ببغاوية”، “سنرد في الوقت والزمان المناسبين”.
شكوك إيرانية
الضربات الإسرائيلية المتكررة على مواقع إيرانية، وعلى شحنات عسكرية، وقادة عسكريين، لا يمكن أن تتم إلا بمعلومات استخبارية دقيقة تفيد بموعد تحرك ووصول هذه الشحنات أكان عبر الموانئ، أو المطارات، أو قوافل عابرة للحدود، وأماكن تواجد القادة وتحركاتهم، ومناطق سكنهم، فهل تمتلك إسرائيل شبكة تجسسية تجول في أنحاء سوريا تترصد كل شاردة وواردة. فقبل ضربة القنصلية، استهدفت شققا سكنية في دمشق وحمص أسفرت عن مقتل قادة من الحرس الثوري في منطقة المزة (صادق أويد زادة مسؤول الاستخبارات الإيرانية مع خمسة قادة آخرين)، كما استهدف القيادي رضى موسوي في البناء الذي يقطنه في منطقة السيدة زينب في ريف دمشق. بعد هذه العمليات أشارت السلطات الإيرانية للنظام السوري أن هناك اختراقا أمنيا، وطالبت باعتقال “الجواسيس التي تعمل لصالح إسرائيل” واتهم عضو اللجنة الأمنية في البرلمان الإيراني إسماعيل كوثري “جهات سورية محلية بالتخابر مع إسرائيل وطالب النظام أن يتحرك بجدية”. تجددت الاتهامات الإيرانية للنظام السوري بعد عمليات اغتيال طالت نحو 18 جنرالاً وقيادياً إيرانياً في فترة وجيزة كان آخرها الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق.
طهران باتت على قناعة أن النظام السوري بعد أن اطمأن أمنياً في الداخل، صار يبحث عن التخلص من النفوذ الإيراني. صحيفة “الجريدة” الكويتية ذكرت أن إيران وجهت اتهامات للنظام السوري بالضلوع في عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل ضد قادتها، ونقلت عن مصدر في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: “أن الأجهزة الأمنية الإيرانية رفعت تقريرا للمجلس بشأن احتمال ضلوع السلطات السورية في اغتيال كبار قادتها، وقال المصدر إن إيران قامت مع السلطات السورية بفتح تحقيق مشترك حول مقتل رضا موسوي في منطقة السيدة زينب، وحسب المصدر فإن جهاز الاستخبارات السوري عرقل التحقيق، واضطرت طهران بفتح تحقيق منفصل مع حزب الله، وأظهرت نتائج التحقيق في التقرير أن “الخروقات والتسريبات الأمنية التي أدت إلى اغتيال قادة الحرس في سوريا وكذلك بعض كوادر حزب الله في سوريا ولبنان، تحظى بغطاء سياسي وأمني على مستوى عالٍ، وبشار الأسد لابد أن يكون على علم. وذهب إلى أبعد من ذلك حيث اتهم النظام بفتح قنوات مع تل أبيب للتخلص من الهيمنة الإيرانية، ويضيف يبدو أن هناك شرخا بين الطرفين تفاقم بعد عملية طوفان الأقصى حيث رفض الأسد الانضمام لمحور المقاومة بحجة أنها شاركت في القتال مع المعارضة السورية”.
قاسم سليماني
طهران من جانبها وبعد مقتل قائد الحرس الثوري قاسم سليماني الذي كان يتكتم على كل تحركاته، تيقنت أن معلومات رحلته من دمشق إلى بغداد قد كشفت وتم تسريبها مما مكن إدارة دونالد ترامب باصطياده فور خروجه من مطار بغداد.
وترى طهران أن استمرارية النظام وعدم سقوطه هو بجهود إيرانية، وهي أحد أعضاء الدول الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) في محادثات آستانا وسوتشي وتواجدها العسكري والاقتصادي في سوريا هو المقابل لكل الديون المترتبة على نظام الأسد.
واليوم فإن الضربة الصاروخية الإيرانية لإسرائيل تعتبر رسالة ضمنية أيضا موجهة للنظام السوري أن يعيد حساباته في التعامل مع الوجود الإيراني.
كاتب سوري