كنت بعمر المراهقة عندما سمعت باسم القائد المفدى، وبشعاره: "الأسد إلى الأبد". جدران دمشق امتلأت بصوره العملاقة. تماثيله انتصبت في الساحات. صورته التصقت بصفحات الصحف الأولى، وعلى الشاشات الصغيرة، وآذاننا لم تعد تسمع سوى خطاباته الطنانة، الرنانة، بكرة وأصيلا. حسبت أنه هبط من كوكب سكانه خارقون، لا يموتون، كسكان الجنة "خالدين فيها أبدا".
بعد حلم كابوسي أصابني رأيت فيه رئيسنا المؤبد رجلا أخضر بقرنين ومنجل وكأنه عزرائيل، يحصد بالرؤوس، هم ليحصد رأسي وهو يصيح بارز النواجذ: "إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها" فاستيقظت مذعورا، مرتعد الأوصال. فعقدت العزم أن أصمت كما أوصاني والدي عندما سألت: هل رئيسنا من المؤبدين؟ وقصصت عليه كابوسي. قال: "ياولدي لا تقصص رؤياك على إنس أو جان فيكيدوا لك كيدا".
دارت الأيام، ومرت الأيام، ازدادت فيها أعداد الصور، والتماثيل، وقل كلام الناس، بات همسا، ووشوشة. مع كل عام يضاف إلى عمري، وأعمار السوريين، كانت تتفاقم أعداد المخبرين، والشبيحة، والمدلسين، والمندسين، والمصفقين، والمطبلين، والمزمرين، وهزازي الرؤوس، ومنحنيي الظهور. والمعتقلات، والسجون، وفروع المخابرات. ولم نعد نسمع همسا، ولا وشوشة، ولا لغوا، ولا صريرا. حتى البلابل توقفت عن التغريد، والحمام عن الهديل، والعصافير عن السقسقة، والخيل عن الصهيل. لم نعد نسمع سوى نباح الكلاب، وعواء الذئاب، ونهيق الحمير
. كثرت الأقاويل من فم إلى أذن: "فلان اختفى"، "علان مات تحت التعذيب"، "فلانة اغتصبت"، "علانة رهن الاعتقال". صرت من بين الخائفين الصامتين، لا أتحدث مع صديق إلا بـ " كيف الحال، والحمد لله، ولايحمد على مكروه سواه" وخاصة بعد أن صعدت روح والدي إلى إحدى رقع السماء، ووجدت نفسي وحيدا، محسورا، مقهورا. لاسيما بعد أن صار للجدران آذان، وصار الأخ لا يثق بأخيه، وأمه وأبيه. ضربت أخماسا بأسداس ثم أسباعأ بأثمان، لم أجد حلا لعزلتي، وعزلة شعب بأكمله، تضاءل الهواء في رئتينا، وفقدنا صوتنا، وألسنتنا لم يعد لها وظيفة سوى بلع شح الطعام، ووجدت أني كلما تكدست السنون في سني ضاقت أنفاسي، ونقصت كمية الأكسجين حتى كدت أختنق. صرنا نمشي الحائط ... الحائط ونقول: "يا رب السترة".
جاء رجل من أقصى المدينة يقول همسا: تونسي أحرق نفسه وألهب تونس معه، ثم جاء الخبر: بن علي هرب يا عرب. قلنا: والله ظفرنا بفرصة حرية إذا وصلت الثورة إلى سوريا، فنتخلص من الأسد إلى الأبد. بعد أربعين حولا من العزلة ولدنا، وكبرنا، واشتعل رأسنا شيبا ونحن نتطلع لفتح نافذة نتنفس منها نسائم الحرية. عندما انطلقت أول صيحة "الشعب يريد إسقاط النظام" كنت في بهو الستين وخارج سوريا، هللت وانفرجت أساريري قلت: يسقط الأسد، ويسقط الأبد، فلا أبد إلا في الجنة، أو جهنم. اليوم مر عقد على صرخة السوريين: "سوريا بدها حرية"، مازال الأسد يطغى، واكتمل العام الخمسون على العزلة، بعد أن دمرت سوريا، وهجر نصف شعبها، وشربت أرضها أنهار دم أبنائها، وبات الفقر صفة ملازمة للسوريين.. والأسد المستغيث بكل طغاة العالم يهيء نفسه لاستكمال مشوار الأبد كما أوصاه أبوه. كانت المؤامرة الأممية ليست على النظام، وإنما على الشعب السوري الذي من اليأس أطلق شعاره: "يا الله ما لنا غيرك يا الله". وعليه فنحن السوريين الموقعين أدناه، بعد أن تخلى عنا العالم، وتأمر علينا، وصمت على تشردنا، وقتلنا بالكيماوي، نتوسل إلى سيد الكون أن يرسل كتيبة من ملائكته تأخذ الأسد إلى الأبد.