ذات سنة، وكانت بداية عمل لي في بلد عربي غني، تعاقدت مع سائق يدعى مشرف من أصل باتاني ( قبيلة في باكستان) يعمل كسائق سيارة يابانية يقلني إلى عملي كل صباح، بعد عدة أيام توطدت مودة بيننا إذ كان صاحب نكتة، وفكاهة، فمن اليوم الأول وفي طريقنا المزدحم كان يضرب على مقوده بإيقاع متزن، ويغني أغنية من تأليفه تعكس وضع حال ذاك البلد: إذ يقول:
سيارة ياباني، والسائق باتاني، والعامل إيراني، والمطعم لبناني، والحارس سوداني، والحامي امريكاني،.. عندما سألته هل ما يتقاضاه من راتب يكفي التزاماته قال لي: أعمل أيضا كمدرس ببغاوات. عندي مدرسة ببغاوات. أثار بي العجب والفضول فاصطحبني بعد إلحاح مني أزور هذه المدرسة العجيبة. في منزله المكون من ثلاث غرف وجدت في الغرفة الأولى ثلاثة ببغاوات. قال هذه الببغاوات في الصف الأول فهي تتقن كلمة واحدة يقولون لك: مرحبا. في الغرفة الثانية قال هذا الصف الثاني. وجدت ببغاوين إذا سألت: كيفك، يردان: الحمد لله. في الغرفة الثالثة، ولحظة دخولي سمعت شتيمة قبيحة بأمي. قلت ما هذا يا مشرف؟ ضحك حتى بانت آخر ضرس نخرة في فمه وقال: هذا صف "الزعران"، سألت وهناك من يشتري هؤلاء الزعران؟ قال كلما علمته شتائم قبيحة كلما علا ثمنه، والطلب يزداد. وشرح لي كيف يعمل كمدرس. قال: اردد الكلمة أمام الببغاء إذا رددها أعطيه حبة فستق، وإذا لم يردد أضعه في قفص وأجوعه، ثم أعود إليه وهو جائع وأريه حبة الفستق، واردد الكلمة حتى ينطقها فأعطيه حبة الفستق وهكذا..اليوم عندما تعود بي الذاكرة إلى مدرستي في دمشق الرهينة أجد أننا كنا كببغاوات مشرف. كان النظام المهيمن يجبرنا أن نردد شعار البعث كل صباح قبل دخول الصفوف: " أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة"، والثالوث العقائدي المقدس:" وحدة، حرية، اشتراكية". ومن لا يردد الشعار، والثالوث يعاقب، ومن يردد ويظهر استزلامه للنظام يعطى حبة الفستق. لقد عمل النظام القمعي على تدجين الشعب السوري ليصبح كالببغاوات لا يرددون إلّا ما يقوله لهم، ومن لا يطيع يضعه في أقبية التعذيب كقفص مشرف ويجوعه حتى " يرفع التوبة" كما يقال. أو يسلط عليه "شبيحته" التي تشبه صف "الزعران" في مدرسة مشرف فهم جاهزون ليشتموك بأقذع الشتائم، ويضربوك ويهينوا كرامة كل إنسان يرفض أن يكون ببغاء مطيعا يردد فقط ما يطلب منه أن يردد. والشعب السوري قام بثورته ليرفض أن يكون ببغاء في قفص، بل ليقول كلمته بحرية، وليس ما يريد أن يلقنه نظام يهدده كل يوم بحريته، وزاده، وأمنه. اليوم انقلب السحر على الساحر، فبات رئيس نظام القمع ببغاء يردد ما يقول له أسياده الروس والأيرانيون الذين جلبهم لإنقاذ نظامه تماما كالخليفة المستعين أحمد بن محمد المعتصم الذي جلب المماليك السلاجقة والفرس لحمايته فبات سجينا لهم في قفص كقفص مدرسة ببغاوات مشرف، فقال فيه الشاعر:
خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا