من بين المدن السورية تبقى لمدينة حماة، مدينة أبي الفداء، خاصيتها الفريدة، فهي مدينة دواليب المياه (النواعير). كانت، كنهر العاصي، عاصية على كل غاز. مياه العاصي ترفعها الدواليب في حركة دائرية دؤوبة، كالزمن، على مدار الساعة. يئن حز أضلاع الخشب على الخشب ويعن، ويهمي الماء كالدمع..، كان ليل الثاني من شباط من العام 1982. الناس نيام والمدينة تغسلها فضة القمر، لا شيء يشي بأن مذبحة بالانتظار، ستنفض عنها أكفانها وتسرح بين الغافين. ويصل القتلة إلى المخادع. ويوغلون في دمهم.
سمع عصفور دوي أول رصاصة، فزع، وفزع وراءه أسراب، لم يبق واحد على فنن، ولا حمامة تزجل فوق سطح مسجد، قصف عصف بأحياء المدينة، حي الحميدية، الدباغة، الكيلانينة، سوق الشجرة، حي الوادي، حي المرابط، سوق الخضر، ولم يبق حجر يحتضن حجرا. انتشرت دبابات وآليات النظام في الشوارع يقصفون قصف عشواء كل ما تراه العين. مساجد، أبنية، أسواق، معالم أثرية،.. علا الناس الفزع، ووطأهم الرعب، وخثرت الأرجل.
سبعة أيام بلياليها لم تسعف الناس سنة ولا نوم. طوق على المدينة، وطوق على الناس. قالوا ماذا فعلنا وفعل أطفالنا؟ أنتم وأطفالكم إرهابيون تأخرتم على الموت، ونحن جيش عزرائيل جئناكم لنعجل صعودكم إلى جهنم. هنا قتل ستون، وهناك ذبح مئات ذبح الكباش، ورجال بمناماتهم جروهم من أسرتهم إلى ساحات الإعدام. هذا طبيب العيون فقئت عيناه قبل أن تمر الحربة في أحشائه، وتلك امرأة في بهو الثلاثين تقاطر عليها السفكة أمام أعين أولادها بعد قتل زوجها، وهؤلاء صبية جائعون نصبوا لهم فخا بشاحنات الخبز فهرعوا كعصافير جائعة ليحصدهم الرصاص. كم قتلتم بعد أسابيع ثلاثة أيها الأبطال؟ سأل شقيق الطاغية بعد أسابيع ثلاثة من الهتك والفتك. ربما عشرين ألفا ونيف.
افتحوا مقابر جماعية جديدة كمقابر سرحين، قالها ضاحكا. دخلوا مسجدا مزدحما بمئات المعتقلين ساموهم سوء العذاب، فعلوا بهم الأفاعيل، وذبحوهم جماعة، قطعوا أصابعهم وصفوها صفا، صفا، على الرصيف. بكاء المدينة فاض عن نهرها، وفاق مياه الدواليب، التي لم تعد تئن ولا تعن بعد أن باتت حطاما جرها النهر. اكفهرت الوجوه كالشتاء، وقرؤوا على أرواحهم الشهادتين قبل الرمق الأخير، صار صعبا على المرء أن ينتشل روحه من أوحالها، ينتظرون تلفيق التهمة لتكون نصلا يغز الوريد. النهر الذي كانت تتمرى فيه النجوم، لم يعد يعكس سوى الدم النافر من الشرايين. لم تعد تسمع سوى نواح وعويل يقطع نياط القلب. باتت حماة كعكة بحجم مدينة يقتسمها اللصوص، عفش المعفشون في كل ديار يفتشون، بتروا الأيادي التي عصت أن ينزلق منها سوار، أو أصابع أبت التخلي عن خواتم أفراحها. بعد شهر عرس الدم، نادوا من بقي حيا ليتظاهر تأييدا للقائد المفدى الذي يحب شعبه جما، جما. ويريده أن يكون غبيا، مطيعا، خنوعا، لين الانحناءة، يسبح بآلاء الولاء. بعد تسع وثلاثين سنة مازلنا نسمع ضجيج الذكريات، وافتقدنا عنين النواعير.