الميليشيات العراقية بين تهديدات واشنطن وأولويات طهران: معركة النفوذ والاستقرار الداخلي

ميليشيات عراقية
ميليشيات عراقية

لا تزال الميليشيات الشيعية في العراق، وعلى رأسها الحشد الشعبي، تشكل معضلة أمنية وسياسية معقدة، ليس فقط للحكومة العراقية، ولكن أيضًا لواشنطن وطهران. نشأت هذه الجماعات لمحاربة داعش، لكنها تحولت لاحقًا إلى أدوات رئيسية في تنفيذ أجندة النظام الإيراني الإقليمية، ما يجعل مستقبلها مرتبطًا بالصراع الأوسع بين إيران والولايات المتحدة.

اليوم، تجد بغداد نفسها في مفترق طرق خطير: فهي لا تستطيع تفكيك هذه الميليشيات بسهولة نظرًا لقانونية وجودها داخل المؤسسة العسكرية منذ 2016، كما أن تركها دون ضوابط يزيد من احتمالية تصعيد أمريكي قد يهدد سيادة العراق. في المقابل، تدرك إيران أن بقاء هذه الجماعات مسألة استراتيجية، ليس فقط لضمان نفوذها الإقليمي، ولكن أيضًا لحماية استقرارها الداخلي من أي تحركات معارضة.

إيران وتكريس سيطرتها على الميليشيات

زيارة إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس، إلى بغداد في مارس 2025، أكدت أن طهران تولي أهمية كبرى للحفاظ على قوة الحشد الشعبي. التقى قاآني بقادة هذه الفصائل، وقدم توجيهات صارمة بضرورة ضبط النفس في مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، ما يعكس قلق إيران من أن أي تصعيد غير محسوب قد يؤدي إلى رد أمريكي شبيه باغتيال قاسم سليماني في 2020.

بدوره، شدد إيرج مسجدي، السفير الإيراني السابق في العراق، على أن إضعاف الحشد الشعبي أو طرح التفاوض حول برنامج إيران الصاروخي هو “خط أحمر” لطهران، في إشارة إلى أن المفاوضات النووية أو التهديدات الأمريكية لن تغيّر التزام إيران بدعم وكلائها في العراق.

هذا الدعم ليس مجرد سياسة إقليمية، بل يرتبط أيضًا بأمن النظام الإيراني نفسه، حيث ترى طهران أن تراجع نفوذها في العراق قد ينعكس داخليًا بزيادة الضغوط الشعبية وانتفاضات جديدة ضد النظام.

واشنطن والتصعيد المحتمل

في المقابل، تتعامل إدارة واشنطن مع أي تحرك للميليشيات العراقية على أنه قرار إيراني مباشر. بعد الهجمات المتكررة على المصالح الأمريكية في العراق وسوريا، هددت الولايات المتحدة بردود عسكرية أكثر حدة، وهو ما يضع الحكومة العراقية في موقف شديد الحساسية.

الخيار الأمريكي قد يكون تصعيد الضربات الجوية ضد قادة الميليشيات، كما فعلت مع قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس عام 2020، أو الضغط على بغداد لاتخاذ خطوات فعلية لدمج هذه الفصائل في الجيش وتقليص نفوذها. ومع ذلك، فإن تنفيذ مثل هذه الخطوات سيواجه رفضًا قويًا من الأحزاب الموالية لإيران داخل البرلمان العراقي.

الحشد الشعبي.. معضلة الحكومة العراقية

الحكومة العراقية، بدورها، تعيش في توازن صعب بين واشنطن وطهران، فهي من جهة تدرك أهمية الحشد الشعبي في محاربة داعش وضبط الأمن الداخلي، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع التغاضي عن المخاطر الأمنية التي يسببها استمرار نفوذه خارج سلطة الدولة.

السيناريوهات المتاحة أمام بغداد تشمل:

 1. التفاوض مع واشنطن لتقليل وجودها العسكري مقابل ضبط الميليشيات، وهو ما قد يلقى قبولًا أمريكيًا لكنه سيواجه معارضة قوية من إيران والفصائل المسلحة.

 2. دمج الحشد الشعبي تدريجيًا في القوات المسلحة، لكن بإشراف دولي لضمان عدم تحوله إلى جيش موازٍ، وهو خيار منطقي لكنه سيصطدم بالمقاومة الإيرانية.

 3. لعب دور الوسيط بين إيران وواشنطن لتقليل التوترات، وهو الخيار الذي قد يجنب العراق السيناريو الأسوأ المتمثل في حرب بالوكالة على أراضيه.

إيران والمخاوف الداخلية: معركة بقاء

إيران، رغم محاولتها إظهار صلابة موقفها الإقليمي، إلا أنها تعيش حالة من القلق الداخلي المستمر. فمع تصاعد الأزمة الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية التي لم تتوقف منذ 2022، يدرك النظام الإيراني أن أي تراجع إقليمي، خصوصًا في العراق، قد يُفسَّر داخليًا كعلامة ضعف، مما يحفّز انتفاضات جديدة ضد حكم ولاية الفقيه.

وبالتالي، فإن الحفاظ على نفوذها في العراق ليس مجرد سياسة خارجية، بل ضرورة وجودية مرتبطة ببقاء النظام نفسه. أي تراجع أمام الضغوط الأمريكية أو خسارة السيطرة على الحشد الشعبي قد يؤدي إلى موجة جديدة من الغضب الداخلي، مما يعزز نفوذ المعارضة، لا سيما منظمة مجاهدي خلق والمراكز الثورية.

الخاتمة

يجد العراق نفسه اليوم في قلب صراع إيراني-أمريكي شديد التعقيد، حيث تسعى طهران إلى الاحتفاظ بنفوذها عبر الميليشيات المسلحة، بينما تحاول واشنطن فرض ضغوط متزايدة لإنهاء هذا التهديد. في الوقت ذاته، تعاني الحكومة العراقية من ضغوط هائلة للتوفيق بين هذه المصالح المتضاربة.

في النهاية، فإن المعادلة في العراق لا تتعلق فقط بالمصالح الإقليمية، بل تمتد إلى استقرار النظام الإيراني ذاته. ما يعني أن أي تغيير في مستقبل الميليشيات لن يقتصر تأثيره على بغداد فقط، بل قد يحدد أيضًا شكل المواجهة القادمة بين واشنطن وطهران، وربما مصير النظام الإيراني نفسه.