قدمت قناة الجديد اللبنانية مؤخرا ، رواية جديدة عن صاحب نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت ، التي انفجرت في 4 آب الماضي ، حيث خلصت إلى أن هذه الشحنة تم استقدامها ، عبر رجال أعمال سوريين يحملون الجنسية الروسية ، وهم ، الأخوين عماد ومدلل خوري ، ورجل الأعمال المعروف ، جورج حسواني .
القناة اللبنانية اعتمدت في روايتها على تحقيق استقصائي ، تتبعت من خلاله أسماء الشركات الوهمية المسجلة في بريطانيا ، والتي قامت بشراء الشحنة عبر سلسلة طويلة من الألاعيب من أجل إخفاء صاحب الشحنة الأصلي ووجهتها الحقيقية ، إلى أن انتهى بها المطاف في مرفأ بيروت منذ العام 2015 ، بينما عجزت الدولة اللبنانية ، منذ ذلك التاريخ ، التي قامت باحتجازها ، عن التصرف بها ، كما أن أحدا لم يتقدم ليسأل عنها ويطالب بها ، حيث بقيت في مخازن المرفأ إلى أن انفجرت وتسببت بكارثة كبيرة للدولة اللبنانية .
المتابع للتحقيق الذي أجرته قناة الجديد ، يعتقد بأن الرواية محكمة تماما ، وأن التهمة "لابسة" رجال الأعمال السوريين الثلاثة المجنسين روسيا ، دون أدنى شك ، لكن دون أن تحدد القناة بدقة لصالح من تم جلب هذه الشحنة .. لصالح روسيا أم لصالح النظام ..؟
ثم في حلقة أخرى تستضيف فيها القناة ، الصحفي العامل لديها ، رضوان مرتضى ، وأحد المتابعين لقضية انفجار مرفأ بيروت والباحثين عن الحقيقة بحسب قوله ، إلى جانب معد التحقيق ، الصحفي فراس حاطوم ، حيث يتضح من اللقاء مع مرتضى أنه من عظام رقبة حزب الله ، وأنه يبذل جهودا كبيرة لإبعاد التهمة عن الحزب ، بل وفي تصريحات كثيرة ، يكشف بأن معرفة صاحب الشحنة الحقيقية لنترات الأمونيوم ، هو أحد هواجس حسن نصر الله ، بل أصبح أحد مطالبه ، بعدما تصاعدت الاتهامات من قبل أطراف لبنانية ، بحق الحزب بأنه هو صاحب هذه الشحنة وهو المسؤول بالتالي عن انفجارها .
بداية ، أولى الملاحظات التي يمكن تسجيلها على الكلام السابق ، أن الشحنة قد يكون بالفعل جلبها رجال الأعمال الثلاثة ، لصالح النظام أو روسيا منذ العام 2015 ، لكن السؤال الذي يتبادر للذهن مباشرة ، هو لماذا لم يتم سحب هذه الشحنة إلى سوريا طوال هذه المدة ..؟ وما الهدف من إبقائها في مرفأ بيروت ، سيما وأن إدارة المرفأ يسيطر عليها حزب الله بالكامل ، وبالتالي ليس أسهل من نقلها إلى سوريا .. ؟
الملاحظة الثانية ، هي أن روسيا ليست بحاجة لوسطاء من أجل شراء نترانت الأمونيوم ونقلها إلى سوريا ، بل تستطيع بكل بساطة أن تشتريها بنفسها ، وأن تنقلها عبر سفنها الحربية التي تتجول ليلا نهارا ، بين الموانئ الروسية والسورية التي تسيطر عليها ، ما يعني بأن التهمة في هذه الحالة موجهة للنظام السوري فقط .
أما الملاحظة الأخيرة والأهم ، فهو اعتراف القناة ، بميوعة التحقيق في القضية من قبل السلطات اللبنانية ، ورفض قضاة ومحققين العمل عليها ، تحت ضغوط قوية من جهات نافذة .. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر : من هي اليوم الجهة النافذة في لبنان ، والتي تستطيع أن تعطل التحقيق بقضية على هذا المستوى من الخطورة ، سوى حزب الله .. ؟ ثم من جهة ثانية ، من هي الجهة المسلحة الوحيدة في لبنان ، والتي تسعى لتصنيع الذخائر والمتفجرات غير حزب الله .. ؟!
إذا كما هو واضح ، هناك مساعي من القناة لإبعاد التهمة تماما عن حزب الله ، ولا بأس من إلصاقها بالنظام السوري ، طبعا بالاتفاق معه ، لأن الدولة اللبنانية في النهاية ليست لها سلطة على هذا النظام ، ولا تستطيع محاسبته ، وهكذا تنتهي القضية داخل أدراج المحاكم اللبنانية ، مثلما انتهت كل القضايا الجرمية التي ارتكبها النظام السوري بحق لبنان .
وإذا أردنا أن نفترض العكس ، بأن التهمة ثبتت على حزب الله ، فما هي المفاعيل المحلية والدولية لمثل هذا الأمر ..؟ الجواب ببساطة ، أن التحقيق متابع من قبل دول كبرى ، وعلى رأسها فرنسا ، وفي حال تبين أن الشحنة تعود إلى حزب الله ، فهي في هذه الحالة سوف تكون محرجة ، لأنها دافعت عنه في العديد من المواقف ، وبالتالي هذا سوف يتطلب منها اتخاذ إجراءات عقابية شديدة بحقه ، أقلها أن تصنفه إرهابيا ، وتحظر أنشطته على أراضيها ، مثلما فعلت العديد من الدول الأوروبية ، بينما فرنسا لا تزال تتأخر بهذه الخطوة ، وتحتضن على أراضيها ، كبار رجال أعمال حزب الله، الذين يمدونه بالمساعدات المالية .
أما فيما يخص اختيار ثلاثة رجال أعمال سوريين مسيحيين ، ويحملون الجنسية الروسية ، بأنهم هم أصحاب شحنة نترات الأمونيوم ، فأيضا هذا الأمر له حساباته الدقيقة بالنسبة لحزب الله .. فهذا يشير من جهة ، بأن ثلاثة مواطنين روس ، هم من تسببوا بمأساة للدولة اللبنانية ، ومن جهة ثانية ، يعفي النظام السوري من تحمل المسؤولية كاملة ، بأن من قام بهذا الفعل ، ليسوا مواطنين في دولتها ، وإنما يقيمون في روسيا ، ومن ثم لا تستطيع محاسبتهم ، وهم في العموم يخضعون جميعا للعقوبات الأمريكية والأوروبية .
باختصار ، شحنة نترات الأمونيوم ، البالغة 2700 طن ، هي لحزب الله ، سواء جلبها جورج حسواني أم غيره .. وقد أبقاها الحزب في المرفأ لأنه أكثر مكان آمن لها ، ولن تتجرأ إسرائيل على استهدافها ، لأن ذلك سوف يتسبب بكارثة هائلة للبنان ، ويثير الغضب الدولي اتجاهها ..
أخيرا ، إن الزج باسم جورج حسواني وعماد خوري في قضية نترانت الأمونيوم ، يذكرنا بألاعيب النظام السوري وحزب الله ، أثناء التحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ، رفيق الحريري ، عندما تم الزج باسم "أبو عدس " ، من أجل تضليل التحقيق وتشويهه .. وكدنا أن نصدق في تلك الفترة بأن أبو عدس هو بالفعل من ارتكب جريمة الاغتيال .. وهذا ما يحدث معنا اليوم ونحن تطالع تحقيق قناة الجديد ..