يقول العالم الأمريكي هارولد لاسويل في نظرية سلسلة الاتصال: "من يقول ماذا، لمن، بأي وسيلة، وما هو التأثير؟"
وهذه المقولة تختصر علميات الاتصال وطبيعتها بحسب كل مجتمع، وكل نظام سياسي. فعملية الاتصال في الولايات المتحدة ليست كالعملية في فرنسا مثلا، أو روسيا، أو الهند حتى ولو كانت تعتمد جميعها نظاما سياسيا ديمقراطيا ليبراليا. وبالطبع فعملية الاتصال تختلف تماما في دول أخرى تعتمد أنظمة اشتراكية أو شبيهة لها، أو أنظمة أحادية، أو ملكية وراثية،.. لكن عملية الاتصال تختلف وتتغير حسب الأزمنة والأمكنة، والتطور التكنولوجي. فعملية الاتصال بالأمس لا تشبه عملية الاتصال اليوم. الأنظمة العربية مثلا قامت باحتكار العملية الاتصالية بسيطرتها على الصحافة والإذاعات ثم القنوات التلفزيونية، وبالطبع كل الإصدارات باتت تحت المراقبة، بسن قوانين إعلامية تتناسب وعقلية هذه الأنظمة المستبدة. وبالمفهوم الإعلامي العلمي ندعو هذه العملية بالإعلام العمودي، أي أن عملية الاتصال باتت تسقط من المرسل ( النظام) من الأعلى إلى الأسفل (المجتمع بأكمله)، والرسالة الموجهة هي ما يريد النظام أن يمرره من "بروباغندا" أو طمس لبعض الحقائق، أو تشويهها، (من يقول ماذا؟ لمن؟) والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. ويمكن أن نقول هنا أن التقدم التكنولوجي في هذا المجال كاختراع الراديو والتلفزيون جاء في صالح هذه الأنظمة التي كان بإمكانها السيطرة عليها وتجعلها ملكية عامة منذ البدء. وحولت الصحافيين العاملين فيها إلى موظفين يدارون من قبل إداريين مراقبين لكل شاردة وواردة. ووضعت قوانين إعلامية تتماشى ومصالح هذه الأنظمة. وإذا عدنا إلى سلسلة لاسويل مرة أخرى، لنرى التأثير فإننا نجد أن المجتمعات الواقعة تحت سيطرة إعلام الدولة قد عزفت عن وسائلها وتحولت إلى وسائل خارجية، خاصة بعد بروز إذاعات الإف إم، والقنوات التلفزيونية عبر الأقمار الصناعية التي تبث بشكل مباشر على مساحات واسعة من العالم، وبمعنى آخر أن الإعلام العمودي برسائله الموجهة من الأعلى إلى الأسفل أثبتت عدم نجاعتها فالأنظمة الاستبدادية التي تعتقد أن "البروباغندا" على مبدأ النازي غوبلز "أكذب أكذب فلا بد أن تجد من يصدقك" يمكن أن تلمعها وتظهرها بحلة ليست حلتها سقطت جميعها وأكبر دليل على ذلك ثورات الربيع العربي التي ثارت لنيل الحرية وحرية الرأي والتعبير. وهذا ما يدعى تأثير "البومرانك" أي هذه اللعبة الاسترالية التي يقذفها اللاعب لتذهب بعيدا لكنها تدور ثم تعود لتضرب رأسه تماما كإعلام السلطة العمودي. لكن سلطان السلطة على وسائل الإعلام انتهى عهده بضربة نجلاء من التقدم التكنولوجي الذي برز في العقدين الأخيرين في مجال الاتصال والتواصل :(الانترنيت ومواليدها العديدة من يوتيوب، لفيس بوك، إلى توتير والقائمة طويلة) وقد اصطلح على تسميتها بوسائل التواصل الاجتماعي، أو بمفهوم آخر: الإعلام الأفقي، أي على امتداد المجتمع الواحد افقيا والتواصل على مستوى كروي، أي في جميع انحاء العالم دون أن يكون للسلطان القدرة على السيطرة عليها. وهذا التقدم التكنولوجي الذي ساهم بشكل كبير في مجموع ثورات الربيع العربي لم يكن في صالح الأنظمة الأحادية المهيمنة. التي ما انفكت منذ اندلاع الربيع العربي أن تواجه الإعلام الجديد بكل الوسائل من جيش الكتروني سري يقوم بعمليات إعلامية مضادة، تقييد حرية الصحفيين بل واعتقال أعداد كبيرة منهم أو قتلهم بكل بساطة. هذه المعركة تزداد احتداما كلما برز تقدم جديد مبتكر يكون الشعب أول المستفيدين منه. بمعنى آخر أن زمان أول قد تحول، وهذه الحقيقة الفاقعة ورغم فقاعتها مازالت بعض أنظمة العسكر، أو أنظمة الثورات المضادة، وعلى رأسها النظام الأسدي، تعتقد أنها بتقييد حرية الرأي، وكم الأفواه، واغتيال لصحفيين، ونشر الخطاب المضاد يمكنها أن تربح المعركة، لكن الزمن تغير. تجربة السوري اليوم تقدم نموذجا من الإعلام الأفقي في مواجهة الإعلام العمودي. إعلام متحرر من كل القيود يقوده إعلاميون يؤمنون بحرية الرأي والتعبير، ملتزمون بميثاق إخلاقي، وخط تحريري، وتقديم الحقيقة كما هي، في مواجهة إعلام معاكس، كاذب، مضلل، مطبل، مزمر لنظام يقمع كل الحريات منذ نصف قرن.