السابع من أكتوبر الذي سيسَجل في التاريخ كحد فاصل بين موقف عالمي مؤيد لدولة الاحتلال المارقة قبلا، وموقف عالمي مؤيد للفلسطينيين، ولقيام دولة فلسطينية بعدا. عملية طوفان الأقصى، التي تم التحضير لها سنوات طويلة قبل اليوم الموعود، ورغم كل المآخذ من أطراف غربية وعربية وحتى فلسطينية، لا شك أنها حركت المياه الآسنة التي كانت تغوص فيها القضية الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولم يتمكن الفلسطينيون رغم نضالهم المرير، والمستمر، وتضحياتهم الجسيمة من نيل مطالبهم بالتحرر من فاشية الاحتلال الصهيوني، واستقلالهم الكامل ببناء دولة ذات سيادة وقابلة للعيش على أرضهم، ولا استطاعت الأنظمة العربية من تحقيق هذا الحلم الذي وعدوا به الفلسطينيين منذ نكبتهم الأولى رغم مصداقية قلة منها، وتلاعب قلة أخرى، وتظاهر قلة ثالثة. خلال كل هذه الفترة التي شهدت حروبا، وضروبا، ومجازر فتكت بالفلسطينيين، وتمدد خارطة الاحتلال في الجغرافيا الفلسطينية والعربية، بقي موقف الدول الغربية بشكل عام، وأمريكا بشكل خاص مؤيدا للدولة المارقة تمويلا، وتسليحا، ودعما على جميع المستويات الإعلامية والفنية والثقافية. وحتى خلال حرب غزة الدائرة إلى الآن شاحت بوجهها عن مشاهد القتل والدمار والتجويع والترويع، بل وعملت على معاقبة كل من يؤيد فلسطين ولو برفع العلم الفلسطيني، أو نصب خيمة احتجاج في حديقة جامعية، حتى وضع الكوفية على الأكتاف لأنها باتت رمزا للنضال الفلسطيني (وكان هذا موقف بعض الدول العربية أيضا ففي الوقت كانت جموع المتظاهرين في مدن العالم ترفع العلم الفلسطيني، منعت هذه الدول من يلوح به وتعاقب من يرفعه، كما تفعل الدولة المارقة). اليوم نشهد صحوة متأخرة من دول غربية بعد سبع وسبعين سنة من قيام دولة الاحتلال التي كانت خلالها تدافع عن كل الانتهاكات الفاقعة التي لا تخطئها عين، ولا يستسيغها قانون دولي أو إنساني بحق الشعب الفلسطيني ودول الطوق، وتعتبر نضال الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه عملا إرهابيا، بذريعة حق الدولة المارقة بالدفاع عن نفسها، وتروج عبر وسائل إعلامها المسيطر عليها صهيونيا بأنها «الدولة الديمقراطية الوحيدة في غابة من الدول المتوحشة، وأنها حولت أرض فلسطين إلى جنة بعد أن كانت صحراء، (وتعامت عن أن الرب أطعم بني إسرائيل المن والسلوى من أرض فلسطين في رحلة التيه قبل قيام إسرائيل بأكثر من ألفي عام، وأن اللاجئين اليهود المحتلين الذين جاؤوا من كل فج عميق، وحدب وصوب وجدوا ما يأكلون ويشربون من جنة فيها من برتقال وزيتون وتين وأعناب ومن كل صنف لونين) وأن «هذه أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» في محاولة للقضاء على الشعب الفلسطيني الذي عاش في هذه الأرض قبل العبرانيين بآلاف السنين، ومحو أثره بعيد المنال عن كل المخططات الشيطانية الصهيو ـ أمريكية، وكل من عادى أو انتقد الدولة المارقة فيوصم بمعاداة السامية، فشعب الجبارين صار له تاريخ في النضال منذ 77 سنة، وطوفان الأقصى جاءت تتويجا لهذا النضال، على مدى سنتين إلا شهرين حاولت دولة الاحتلال بكل وسائل الحرب، من تدمير وقتل وتجويع لإبادة شعب غزة والقضاء على المقاومة بالسيوف الحديدية، وعربات جدعون لكن السيوف الحديدية تكسرت، وعربات جدعون عادت عرجاء بخفي حنين. صور المجوعين في غزة التي انتشرت في أنحاء العالم هزت ضمائر شعوب، وحكومات وصار المتظاهرون في العالم أجمع يضربون على الطناجر ويحملون أكفانا كناية عن ضحايا أطفال غزة (معظم الشعوب العربية كانت غائبة وكذلك أنظمتها) هذه الصورة المفجعة جعلت من الدولة المارقة دولة منبوذة، فما فعلته في نفسها كان عملية انتحار سياسي من قبل يمين فاشي متطرف، إزاء هذه الصور المفجعة والتي تذكر بالهولوكوست دفع الدول الغربية للمسارعة بالدفاع عن نفسها ورفع المسؤولية عنها لإبعاد الشبهة بمشاركتها في عملية إبادة الفلسطينيين الجماعية، ولكن هل يمكن أن تنكر، أو تتهرب هذه الدول التي زودت هذه الدولة المارقة بالأسلحة والذخائر مشاركتها في مقتلة الفلسطينيين وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية؟
سبع وسبعين سنة من الاحتلال، وما يقرب السنتين من إبادة شعب بعد تجويعه وترويعه يقف الغرب بأكمله اليوم على قدم واحدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
كأن الدول الغربية عاد إليها الوعي بعد كابوس ويلات صور المجاعة في غزة الذي قض مضاجعها، وحرك آخر أحاسيس في مشاعرها، وهي تشاهد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. بعد سبع وسبعين سنة من الاحتلال والحروب والتهجير، والدمار، وما يقرب السنتين من إبادة شعب بعد تجويعه وترويعه يقف الغرب بأكمله اليوم على قدم واحدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مبادئه «النبيلة» التي طالما أتحفنا بها وصورها بأنها من أخلاقيات ديمقراطياته، وأدبياته، ومبادئه في صون حقوق الإنسان، وما أدراك ما حقوق الإنسان، وأنه يعمل على فرضها على كل دولة «متوحشة» تنتهك هذه الحقوق، بتطبيق عقوبات عليها، والأمثلة لا تحصى، لكن المفاجأة الكبرى أن الدولة المتوحشة، المارقة، الفاشية، وحليفة الغرب الأولى، وجسرها الأول إلى الشرق الأوسط، وخط دفاعها عن مصالحها ونفوذها. وهذه الدولة التي فصّلها الغرب، وزرعها في فلسطين لتكون شبيهة به وتتبنى مبادئه كدولة «ديمقراطية»، فاجأته بالكشف عن وجهها الحقيقي كدولة ترتكب إبادة جماعية، وتقتل الأطفال جوعا، وسفكا. فهرولت دوله ثقالا وخفافا للاعتراف بدولة فلسطين، بعد سبع وسبعين سنة مما نعد من دعم الدولة المتوحشة وإنكار الحق الفلسطيني، كان نوما عميقا انتهى بالكابوس المريع. والأنكى من هذا وذاك، قرر بنيامين نتنياهو احتلال غزة وتهجير شعبها دون خجل أو وجل. رئيس الكنيست أمير أوهانا تهجم على بريطانيا الدولة التي صنعت إسرائيل، وعلى فرنسا التي بنت لها مفاعل ديمونة النووي قائلا: « إذا رغبتم في إنشاء دولة فلسطينية فأقيموها في باريس أو لندن». بل وقال حاخام بصريح العبارة: «على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يحضر تابوته» لأنه قرر الاعتراف بفلسطين، وران الصمت إزاء تصريح صريح بالتهديد بقتل رئيس دولة كفرنسا، ولو أن إماما قال هذا الكلام لقامت الدنيا ولم تقعد ضده وضد الملسمين واتهم بالإرهاب وعلى أمن الدولة. هذه هي أخلاق الدولة المارقة التي تتنكر لمن أنشأوها، ودعموها فقط لأنهم وقفوا مع الضحية ضد الجلاد لأول مرة في تاريخهم، والمفاجأة الثانية جاءت من الحليف الكبير في واشنطن الذي رفض الاعتراف بفلسطين وقال إن «اعتراف فرنسا بفلسطين لا قيمة له»، وقام رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون بزيارة مستوطنة آريئيل المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة، في زيارة وُصفت بأنها الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي بهذا المنصب.
وحسب القناة السابعة العبرية أكد جونسون أكد أن «يهودا والسامرة» مستخدما التسمية الإسرائيلية للضفة الغربية المحتلة، «ملك للشعب اليهودي»، وقام نتنياهو بعملية عسكرية لضم غزة بموافقة ساكن البيت الأبيض رغم أن أمريكا كانت راعية لاتفاق أوسلو الذي ينص على «غزة أريحا أولا» وسيادة السلطة الفلسطينية على الضفة وغزة، فكيف لدول عربية مطبعة أن تطمئن لاتفاقيات تطبيع ستتنكر لها إسرائيل بدعم أمريكي في حال أي أطماع جديدة في الجغرافيا العربية للدولة المارقة؟ وهل ردة فعلها اللاأخلاقية تجاه حلفائها من الدول الأوروبية التي ستعترف بفلسطين، جعلت أنظمة عربية تتوخى الحذر من القيام بأي عملية ضغط للتخفيف عن مآسي الغزيين خشية إغضابها؟ إذ لا يوجد أي تفسير آخر مقنع لهذا الصمت على إبادة شعب عربي شقيق وقتل أطفاله جوعا، حتى لم نر إدخال مساعدات، وذلك أضعف الإيمان، في الوقت الذي هبت شعوب العالم أجمع تتظاهر وتنادي حكوماتها باتخاذ إجراءات لنصرة الشعب الفلسطيني، ودول تقدمت بدعاوى قضائية لمحكمة العدل الدولية، وهناك من سحبت سفراءها، أو قطعت علاقاتها الدبلوماسية، أو مقاطعتها تجاريا. ومهما يكن من أمر ففي أيلول/سبتمبر المقبل سيشهد منبر الأمم المتحدة تسونامي اعترافات بالدولة، والكابوس الحقيقي هذه المرة سيكون للدولة المارقة المتوحشة المحتلة التي تدمر نفسها بنفسها.
كاتب سوري