إذا استثنينا معركة القادسية التي أتت على نهاية الإمبراطورية الفارسية في العراق، فإن كل المعارك التي وقعت بين جيوش المسلمين والجيوش الأجنبية الغازية جرت في فلسطين، وإن دلت على شيء فإنها تدل على أن هذه الأرض المقدسة كانت ولا تزال محط أطماع القوى الأجنبية وخاصة الغربية منها خلال القرنين الماضيين، ونهاية بالهجمة الصهيونية في القرن الماضي، واحتلال فلسطين التي شهدت، منذ بدء التاريخ، حروبا لا تنتهي آخرها معركة «طوفان الأقصى». هذه المعركة سيكون لها، كما معارك المسلمين المظفرة السابقة، أكبر الأثر على مستقبل فلسطين والمنطقة ككل مهما كانت النتائج، فقد أثبتت هذه المعركة تشابها مع المعارك التي سبقتها في نواح عدة، لكنها اختلفت في نواح أخرى.
في كل المعارك كانت أعداد المسلمين أقل بكثير من أعداد الغازين، لكن الأسلحة كانت شبة متماثلة، في حين أن معركة طوفان الأقصى تواجه قوى دولية كبيرة تستخدم كل أنواع الأسلحة إلى جانب دولة الاحتلال بأسلحة فردية على رقعة صغيرة من الأرض وتحقق انتصارات عليه.
في كل المعارك التاريخية الأخرى كان المسلمون في كل البقاع يقفون إلى جانب جيوشهم، على عكس المعارك الضارية والقصف البربري لدولة الاحتلال وقتل المدنيين فإن الفلسطينيين اليوم لم يجدوا أي دعم من الأنظمة العربية والإسلامية. كما ساهمت هذه المعركة في انقلاب جذري لصالح القضية الفلسطينية لدى الرأي العام العالمي الذي يشاهد يوميا مدى وحشية الهجمات البربرية لجيش الاحتلال على المدنيين والأطفال الذين يدفعون الثمن غاليا. وبهذه المعركة لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء.
معركة اليرموك
كانت معركة اليرموك أكبر معركة يخوضها المسلمون ضد الإمبراطورية الرومانية. وكانت القوات الإسلامية بعد فتح حمص سنة 635 تتوزع في أماكن مختلفة، فأبو عبيدة الجراح في حمص، وخالد بن الوليد بقواته في دمشق، وشرحبيل بن حسنة مقيم في الأردن، وعمرو بن العاص في فلسطين. أمر أبو عبيدة بأن تتجمع الجيوش كلها في جيش واحد والتحرك إلى اليرموك في فلسطين (حاليا تتبع للأردن) وسلم خالد بن الوليد القيادة، وبلغ عدد جنود جيوش المسلمين حوالي 46 ألف مقاتل في مواجهة جيش الروم بقيادة هرقل البالغ عدده حوالي 300 ألف جندي. وفي فجر 12 من آب/أغسطس 636 التحم الجيشان في معركة حامية الوطيس أسفرت عن انتصار المسلمين وهروب الروم الذين ركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون حتى انتهوا إلى مكان مشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها. وبلغ الساقطون في هذه الهاوية عشرات الألوف، وسميت تلك الهاوية «الواقوصة» لأن الروم وقصوا فيها، وقتل المسلمون من الروم في المعركة نحو خمسين ألفا، خلاف من سقطوا في الهاوية.
تعتبر الحملات الصليبية على فلسطين أول حملات استعمارية استيطانية شاركت فيها معظم الدول الأوربية
كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم – أقوى جيوش العالم يومئذ – هزيمة قاسية، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وهو يقول: «السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا». كانت هذه المعركة نقطة مفصلية في مستقبل الفتوحات الإسلامية بعد القضاء على الوجود الروماني في سوريا (الكبرى) الذي بدأ في العام 64 قبل الميلاد على يد الامبراطور بومبي.
معركة حطين
تعتبر الحملات الصليبية على فلسطين أول حملات استعمارية استيطانية شاركت فيها معظم الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا التي أطلقتها بنداء من البابا أوربان الثاني في العام 1096 دعا فيه المؤمنين لتحرير «قبر المسيح» من المسلمين «الكفار». وهذه الحملات تشبه إلى حد بعيد الحملة الاستيطانية الصهيونية إذ إن كليهما اعتمدتا على ذرائع دينية لاحتلال أراضي فلسطين وطرد شعبها، وكلاهما حملات استعمارية توسعية تهدفان إلى احتلال أكبر مساحات من الأراضي. وقد نجح الصليبيون بعد مجازر مروعة بالمسلمين والمسيحيين على حد سواء في الاستيلاء على فلسطين ومدن أخرى في سوريا، واستمر هذا الاحتلال حوالي قرنين إلى أن تمكن صلاح الدين الأيوبي من تكوين جبهة إسلامية موحدة تحت قيادته وقاد الجيش الإسلامي لخوض معركة حطين الفاصلة في 4 تموز/يوليو1187 وكان يوم سبت، فتقدم بجيش تعداده حوالي 25 ألف مقاتل في مواجهة الجيش الصليبي الذي وصل تعداده إلى حوالي 63 ألف مقاتل، فكانت الغلبة للمسلمين بعد معركة خسر فيها الصليبيون 30 ألف مقاتل واستسلم عدد كبير منهم وفر الباقون.
هذه المعركة الفاصلة قضت على أكبر مخطط استعماري في القرون الوسطى. وغيرت خريطة التوزيعات السياسية في المنطقة، وتم تحرير القدس والمدن السورية عكا، ويافا، وعسقلان وصيدا، وبيروت، وجبيل، وسواها، وتم طرد كل الجيوش الصليبية من سوريا وفلسطين.
معركة عين جالوت
لم يطمئن العالم الإسلامي من هزيمة الصليبين التي جاءته من الغرب حتى اقبلت عليه حملات المغول من الشرق. ففي العام 1258 تمكنت جحافل المغول بقيادة جنكيز خان بالاستيلاء على حاضرة المسلمين بغداد ودمرت بناها ومكتباتها وارتكبت أبشع المجازر فيها (كما نرى اليوم في غزة)، ثم غزت المدن السورية حلب وحمص ومدنا أخرى واتجهت جنوبا بجيش يقوده هولاكو واحتلت مدن فلسطين. وكان السلطان المملوكي سيف الدين قطز قد استلم حكم مصر بعد صراعات دموية بين نهاية الأيوبيين وبداية المماليك، وكان هولاكو ينوي الاستيلاء على مصر فأرسل للسلطان رسالة تهديد مع أربعة رسل فقتلهم قطز وعلق جثثهم على أبواب القاهرة، ورد عليه برسالة تهديد أخرى، قال فيها «إننا لا نستسلم أبدا وسنخوض الحرب معكم، وإن عشنا فسعيدا، وإن متنا فشهيدا، ألا إن حزب الله هم الغالبون». وسار بجيش إلى سهل عين جالوت مع القائد الظاهر بيبرس حيث وقعت المعركة المظفرة في الثالث من أيلول/ سبتمبر 1260، وشارك قطز بنفسه في المعركة بعد أن ألقى بخوذته على الأرض تعبيرا عن عدم خوفه من الموت وأطلق صيحته الشهيرة «وا إسلاماه وا إسلاماه». وكانت هذه المعركة من أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي الأولى التي خسر فيها المغول المعركة التي كانت فاصلة وبهذه الخسارة الفادحة تم ضم وتوحيد العالم الإسلامي تحت حكم المماليك لأكثر من 270 عاما.
هزيمة نابليون
بعد سنوات عدة من الثورة الفرنسية التي وضعت مبادئ حقوق الإنسان عاد الغرب وخاصة فرنسا وبريطانيا في تجربة جديدة في السيطرة على الشرق الأوسط بعد المحاولة الصليبية السابقة. بدأت بمصر في حملة نابليون بونابرت ثم فلسطين ومنها كانت الخطة للسيطرة على كامل سوريا وإسقاط السلطنة العثمانية. فأبحر بقوة عسكرية تقدر بـ36 ألف مقاتل، تحملهم 300 سفينة ويحرسهم أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة، ومدفعية، وسمّيَ بجيش الشرق، وفي صباح الأول من يوليو/تموز 1798 زحف الجيش باتجاه مدينة الإسكندرية وحاصرها، وتمكّن من احتلالها، ثم القاهرة، وبعد أن استولى نابليون على مصر بعد عدة ثورات مصرية ضده، وجه جيشه إلى غزة ثم حيفا حيث ارتكب فيها أفظع المجازر (حوالي 4 آلاف مسلم مدني تم ذبحهم، كما يحصل في غزة اليوم) وكان غرض نابليون من ارتكاب هذه المجزرة أن يصل صداها إلى المدن الفلسطينية والشامية الأخرى كافة فتخر العزائم عن مقاومته، خاصة مدينة عكّا المحصنة، من واليها أحمد باشا الجزار. وقال: «إذا استوليت على عكا يُصبح الشرق في قبضة يدي، وإذا بلغتُ سوريا أشعلتُها ثورة ضد الأتراك، أما إذا وصلت القسطنطينية فإني سأخلع السلطان العثماني وأُقيم دولة جديدة، ومنها أصلُ إلى النمسا (عدو فرنسا الجمهورية آنذاك) فأسحقُها، لكن أماني نابليون تبخرت على أسوار عكا، وأصيب جيشه بمرض الطاعون، (وكان نابليون أول من وعد اليهود بأن يجعل لهم وطن في فلسطين بعد أن حررهم في مؤتمر السنهدرين في باريس)، وعندما عاد مهزوما ترك وراءه 700 جندي فرنسي مصاب أمر قتلهم بالسم. لقد كانت معركة عكا معركة فاصلة أفشلت خطة استعماريه كبيرة، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى وتحقق لفرنسا وبريطانيا استعمار الشرق الأوسط ومنها فلسطين التي أودت إلى النكبة الفلسطينية بعد اعلان دولة اسرائيل التي أفرزت الكثير من الحروب والمعارك والمجازر البربرية لدولة الاحتلال، كان آخرها «طوفان الأقصى» ولن تكون الأخيرة.
كاتب سوري