(عن القدس العربي)
إذا دانت كل الأطياف السياسية الفرنسية عملية «طوفان الأقصى» بشكل عام بمن فيهم رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، إلا أن خلافا شديدا بين بعض الأطراف ظهر للعلن في ما يتعلق بمفردات الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي صرح فيه وزير العدل الفرنسي إريك دوبون موريتي» (الملاحق قضائيا في قضية فساد في فرنسا) بمعاقبة كل من يعتبر هذه العملية نضالا مشروعا للشعب الفلسطيني يصنف مؤيدا للإرهاب» ووصف حماس «بالإرهابية ومعادية للسامية» ومنع التظاهر لتأييد الشعب الفلسطيني، ورفع أعلام حماس تحت طائلة العقوبة، ومهاجما رئيس حزب « فرنسا الأبية « (اليسار الفرنسي)جان لوك ميلانشون الذي لم يصف في خطابه حماس بالإرهابية.
وشدد على أنه عندما ننعت حماس بالإرهاب فهذا يعني أنها لم تعد متحدثا رسميا ولم يعد في إمكانها أن تدخل في أية مفاوضات لاحقة حسب القانون الدولي الذي يمنع الجلوس مع الإرهابيين.
وأكدت النائبة ماتيلد بانو رئيس كتلة البرلمان موقف الحزب في كلمة أمام البرلمان أنها تطالب بوقف فوري لإطلاق النار، والانخراط في حل الدولتين.
وكذلك الأمر بالنسبة لموقف رئيس الوزراء السابق دومنيك دوفيلبان الذي تعرض لهجوم كبير. ولا تزال القضية تتفاعل على أكثر من صعيد سياسيا وإعلاميا وشعبيا على الصعيد الفرنسي والأوروبي (وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قالت إنها تؤيد طرد داعمي حركة حماس الإرهابية من ألمانيا).
أما على المستوى الشعبي ورغم منع المظاهرات فإن عشرات الآلاف الرافضين للحرب على غزة والمؤيدين للقضية الفلسطينية نظموا مظاهرات عدة في أكثر من مدينة فرنسية.
الدولة المسيطرة
علاقة فرنسا بفلسطين علاقة تاريخية بدأت عندما أشعل البابا أوربان الثاني شرارة الحرب الصليبية في العام 1096 حيث انطلقت أول حملة في اتجاه فلسطين من فرنسا بقيادة بطرس الناسك وإقامة أول دولة صليبية في فلسطين تحت حكم بودوان الأول.
وظلت فرنسا الدولة المسيطرة خلال الفترة الصليبية التي انتهت في 1187 بفتح القدس وفشل الحملة الفرنسية التاسعة التي قادها الملك الفرنسي القديس لويس التاسع ووفاته في طريق عودته في تونس. وعادت فرنسا محاولتها للاستيلاء على فلسطين عن طريق حملة نابليون على مصر الذي حاول احتلال فلسطين لكنه هزم على أسوار عكا وفشلت حملته على مصر وانسحب منها في العام 1801.
وعندما تم تنصيبه كإمبراطور فرنسا عقد أول مؤتمر للمجلس اليهودي في فرنسا (السنهدرين) في العام 1807 (وكان اليهود محرومين من كل الحقوق) وحثهم على التوجه إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه ألغى محاكم التفتيش التي فتكت بالمسلمين واليهود في إسبانيا خلال ثلاثة قرون.
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية تحت ضربات فرنسيةـ بريطانية، عادت المسألة الفلسطينية إلى الواجهة بحدة بعد وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا التي تم تقسيم سوريا الكبرى بين الدولتين وقد منحت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين بموافقة فرنسية كي يتم إنشاء الدولة اليهودية.
حل الدولتين
السياسة الفرنسية إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام، وإسرائيل بشكل خاص، صاعدة هابطة كأسنان المنشار. في 29 أيار/ مايو 1947 صوتت فرنسا على قرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي ينص على بناء دولتين: دولة يهودية، ودولة فلسطينية، في 14أيار/مايو 1948 تم الإعلان عن دولة إسرائيل، بالمقابل لم يعلن عن دولة فلسطينية من قبل العرب لكن على عكس ذلك قاموا بإعلان الحرب على الدولة الوليدة التي انتهت بنكبة كبرى وتمددت إسرائيل لتحتل معظم الأراضي الفلسطينية ماعدا الضفة الغربية وغزة (تمدد إسرائيل في الأراض العربية حدث دائما بعد حرب ففي حرب السويس أيضا احتلت سيناء، وانسحبت منها بعد تهديد سوفييتي أمريكي، وفي حرب حزيران/يونيو احتلت كامل الضفة الغربية وغزة والجولان، وفي حرب أكتوبر احتلت الدفرسوار، وأراض سورية ووصلت على بعد 40 كم من دمشق، وفي حرب لبنان 1982 احتلت جنوب لبنان ثم انسحبت منه بفضل المقاومة) فرنسا لم تعترف بدولة إسرائيل إلا بعد سنة من الإعلان عنها. وخلال خمسينيات القرن الماضي نسجت فرنسا علاقات متينة مع إسرائيل، وخاصة في المجال العسكري حيث قامت فرنسا ببناء أول مفاعل نووي (ديمونة) في عهد رئيس الوزراء الاشتراكي غي موليه الذي جعل إسرائيل تمتلك للسلاح النووي.
وقام موليه فيما بعد بالاشتراك مع بريطانيا وإسرائيل بالاعتداء الثلاثي على السويس بعد تأميم قناة السويس من قبل الرئيس جمال عبد الناصر.
الجمهورية الخامسة
مع إنشاء الجمهورية الخامسة ووصول الجنرال شارل ديغول لرئاسة الجمهورية استقبل في العام 1960 رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون كتعبير عن متانة العلاقات بين البلدين (وكانت العلاقات العربية الفرنسية قد تأثرت كثيرا بسبب حرب السويس، وحرب الجزائر).
هذه السياسة شهدت انقلابا جذريا بعد حرب حزيران/ يونيو عندما وصف الجنرال ديغول الإسرائيليين «بالمعتدين» وأمر بحظر بيع الأسلحة لإسرائيل. وقامت فرنسا بالتصويت على القرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة والذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود 4 حزيران 1967. وفي تصريح لاحق في 27 تشرين الثاني/نوفمبر دان الجنرال ديغول الاحتلال الذي لا بد وأن يتحول «إلى قمع، وطرد، الفلسطينيين».
تحت رئاسة فاليري جيسكار ديستان في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1974 (بعد حرب أكتوبر) صوتت فرنسا على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كمتحدث رسمي في الأمم المتحدة، وكانت أول دولة تفتح مكتب أتصال وارتباط مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ومع الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي حاول في العام 1980 في زيارة رسمية لإسرائيل أن يذكر بمواقف فرنسا على منبر الكنيست الإسرائيلي تجاه إسرائيل ولم ينس أن يذكر أن للفلسطينيين الحق في إعلان دولتهم.
الميثاق الفلسطيني
وفي أيار/ مايو 1989 وفي عز الانتفاضة الفلسطينية استقبل ميتران لأول مرة الرئيس ياسر عرفات وأقنعه بأن يتخلى عن جملة: « النضال المسلح الطريق الوحيدة لتحرير فلسطين» في الميثاق الفلسطيني بلفظ الكلمة الشهيرة التي لقنها له بالفرنسية «كادوك» أي «باطلة».
وكانت هذه الكلمة المدخل لاتفاقيات أوسلو التي كان مهندسها رئيس الوزراء آنئذ محمود عباس ووقع عليها الرئيس ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، والتي رفضتها حماس جملة وتفصيلا.
منظمة اليونيسكو
ثم جاءت فترة حكم الرئيس الديغولي جاك شيراك الذي كان ينتهج سياسة ديغول وكانت إسرائيل لا تثق به أبدا وتعرض لتحرش من قبل الحرس الإسرائيلي خلال زيارته للقدس. في العام 2011 صوتت فرنسا لصالح فلسطين لتكون عضوا في منظمة اليونيسكو، وكذلك الأمر صوتت في العام 2012 لدخول فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة (في عهد نيكولا ساركوزي) وخلال الفترة 2008ـ2017 تبرعت فرنسا بمبلغ 500 مليون يورو لتحسين البنية التحتية في الأراضي الفلسطينية، وفي 2020 تم التبرع بـ 16 مليون يورو لمواجهة جائحة كورونا.
وخلال هذه الفترة كانت الدبلوماسية الفرنسية تؤكد دائما على حل الدولتين. وفي العام 2016 تم التصويت بالإجماع على قرار مجلس الأمن رقم 2334 والذي يطالب بتجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. باختصار تركزت الدبلوماسية الفرنسية حول القضية الفلسطينية بأربعة ثوابت: الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعودة لحدود 4/6/67 وتبادل أراضي بنفس المساحة عند الضرورة. حل عادل لكل اللاجئين الفلسطينيين، القدس عاصمة للدولتين، ضمانات حماية للطرفين.
وعلى هذا الأساس أيدت فرنسا خطة الملك عبد الله في 2002 والتي تنص على الأرض مقابل السلام. لكن إسرائيل ضربت عرض الحائط بكل القرارات الدولية وسياسات أوربية تدعم حل الدولتين.
في الأول من تموز/ يوليو 2020 وبعد عمليات التطبيع مع الإمارات والبحرين قامت بضم جزء من الضفة الغربية، فرنسا والاتحاد الأوروبي أدانوا الضم.
طوفان الأقصى
في غزة فتحت فرنسا «معهد غزة الفرنسي» وهي الدولة الوحيدة التي قامت بذلك، وقامت بدور المصالحة بين الفلسطينيين (حماس ومنظمة التحرير) مع العلم أن فرنسا تتخذ نفس الموقف الأوروبي باعتبار حركة حماس «إرهابية» وحاولت أكثر من مرة إقناع حماس بالاعتراف بإسرائيل كي تساهم في إخراجها من قائمة الإرهاب الأوروبية.
المواقف الأخيرة للحكومة الفرنسية إزاء عملية «طوفان الأقصى» وخاصة فيما يتعلق بمنع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، اعتبرها أكثر من طرف سياسي وإعلامي بأنها ليست من مبادئ الثورة الفرنسية والديمقراطية، ولا من سياسة كل الحكومات الفرنسية السابقة التي كانت تحافظ على مواقف متوازنة بين الطرفين، وحافظت فرنسا على موقفها بأن الحل الوحيد يكمن ببناء الدولتين.
في الوقت الذي اعترف فيه وزير خارجية الاتحاد الأوروبي أن المجتمع الدولي فشل في تحقيق حل الدولتين، إلا أن موقفها من طوفان الأقصى في عهد إيمانويل ماكرون كان منحازا تماما إلى إسرائيل، وهذا لا سابقة له منذ النكبة الكبرى.