عودة الخوف من الربيع العربي وهزاته الارتدادية

ثورة السويداء
ثورة السويداء


“لا توقظوا الصين من غفوتها لأنها إذا استيقظت ستهز العالم أجمع”، هذه الجملة قالها نابليون بونابرت في العام 1816، وهذا يدل على نظرته الثاقبة فالصين اليوم، بعد أكثر من مئتي عام تقريبا، تهز العالم قولا وفعلا” فخلال فترة وجيزة (من عمر الأمم) استطاعت الصين في العام 1949 من تحقيق استقلالها، ثم بناء الأمة والدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأصبحت قوة اقتصادية تهدد الغرب بأكمله.
الإرث الحضاري
هناك رغبة دائمة لدى الدول المسيطرة على العالم أن تجعل الشعوب تغفو، وكلما طالت الغفوة كلما كان أفضل. وهناك شعوب يخشى جانبها أكثر من غيرها والتي تمتلك إرثا حضاريا، وإمكانيات بشرية ومادية تؤهلها للمنافسة في التقدم العلمي والصناعي والثقافي وبالتالي التجاري، ومنها الشعوب العربية. فهي تمتلك إرثا حضاريا كبيراـ وبلادا غنية بثرواتها، وبقدرات بشرية هائلة.
فعلى نسق مقولة نابليون بالنسبة للصين، يخشى الغرب من استيقاظ العرب من غفوتهم التي طالت، ولإطالتها أكثر استعان بالديكتاتوريات العسكرية، ودعمها شريطة أن تبقى شعوبها تحت “البساطيل”.
أما التخوف الثاني فهو من الثورات التي تقلب الموازين وتضع أعاليها أسافلها وخاصة إذا تمكنت هذه الثورات من بناء دول ـ مؤسسات، وديمقراطية، أعطت للشعوب حريتها، لتنطلق في بناء مستقبلها.
وهذا يخيف أكثر من دولة إقليميا ودوليا ويهدد دولة الاحتلال التي صنعت هالة من حولها أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة المزدهرة وسط دكتاتوريات عاتية. ومن المعروف أن سوريا كانت أول دولة عربية بدأت بعد استقلالها بمشروع الدولة الديمقراطية التي أجهضت سريعا بانقلاب عسكري، وليس صدفة أنه جاء بعد الإعلان ان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي. فأمريكا التي أعلنت الحرب على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل (ولم يكن يملكها حسب كل تقارير المراقبين الدوليين)، أرفقت هذه الحجة بأخرى أوهى منها وهي بناء الديمقراطية، والنتيجة أنها دمرت العراق اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، أما الديمقراطية المزعومة فلا أثر لها إذ تحول العراق إلى دولة مجزأة تحكم بدستور طائفي، والميليشيات.
ثورات مضادة
مع انطلاقة الربيع العربي الذي فاجأ الجميع وهز عروش أكثر من نظام عربي وأسقطه، كثير من الأنظمة العربية، ودول غربية خشيت على تمدد رقعة الربيع فتكاتفت لمواجهة الثورات بثورات مضادة لتعيد عقارب الساعة للوراء. ولكن هل يعود الزمن للوراء؟
وهل ستعود هذه الشعوب مجبرة إلى غفوة عنوة وتكتم غيظها مكبلة الحرية، ومنتهكة الكرامة، وتنام طاوية البطون خاويها؟
ينبئنا تاريخ الثورات العالمية أن الثورات تأتي على شكل موجات كموجات البحر، تأتي موجة عاتية وتنكسر فتلحقها موجة ثانية، فالثورة الفرنسية التي اندلعت في العام 1789 لم تدم طويلا، إذ تبعها حكم ديكتاتوري مع روبيز بير، ثم امبراطوري مع نابليون بونابرت، ثم عودة الملكية مع لويس الثامن عشر في العام 1818. بفعل الثورات المضادة التي تضافرت فيها جهود ملكيات أوروبية عدة لوأد الثورة الفرنسية، واعتقدت خاطئة أنها قتلت هذه الثورة في بيضتها، فجاءت الهزة الارتدادية في ثورة التويلري في العام 1848 لتعيد الكرة من جديد وتنتشر في أنحاء أوروبا، ولكن هذه المرة نجحت الثورة في بناء مستقبل فرنسا كدولة مؤسسات ديمقراطية. وكذلك بالنسبة للثورات الأخرى كالبلشفية في روسيا، وثورة الشاي في أمريكا، وسواها.
بعد 12 سنة على ثورات الربيع العربي، والتي لا تزال تتفاعل وتفرز حروبا بينية (في ليبيا، وسوريا، والسودان، واليمن)، أعتقد البعض أنها أخمدت تحت ضربات الثورة المضادة، لكن المفاجأة جاءت أولا من سوريا في ثورة الموحدين في جبل العرب، وكانت الشرارة فيها رفع أسعار المواد الغذائية ولا سيما المحروقات.
فقد نزل الناس إلى ساحة الكرامة ليس لمطالبة النظام بالعودة عن رفع الأسعار، ولكن برفع شعار إسقاط النظام: “الشعب يريد إسقاط النظام”، و”سوريا لنا وما هي لبيت الأسد” والمطالبة بتطبيق قرار الأمم المتحدة 2254، وهي المطالب الأولى لثورة 2011، وتحول شيخ العقل حكمت الهجري إلى زعيم روحي يدعو للثورة وتحرير سوريا من الميليشيات الإيرانية وحزب الله التي وصفها بالاحتلال، وأصبح أيضا ممثلا عن شعب بأكمله بقي صامتا لأنه تحت سيطرة النظام، لكن وسائل التواصل الاجتماعي امتلأت بمقولة “الهجري يمثلني” وهذه ضربة موجعة أيضا للائتلاف الذي يصر على أنه ممثل عن الشعب السوري رغم كل اخفاقاته. وهنا يجب أن ننوه إلى نقطة فارقة وهامة جدا في ثورات الربيع العربي الأولى أنها لم تكن لها قيادة واضحة تقودها وتتكلم باسمها، أما هنا فحكمت الهجري أصبح بنظر الكثيرين بطلا قوميا كما كان زعيم الثورة السورية سلطان الأطرش. النقطة الثانية الفارقة وهي أن النظام لم يرسل دباباته وطائراته، وميليشياته و”شبيحته” إلى الجبل، ولم يقصفه بالكيميائي والبراميل المتفجرة، خشية إثارة مكونات أخرى في المجتمع السوري من ناحية، وردود فعل متوقعة من قبل الغرب (وخاصة أمريكا وبريطانيا) التي بدأت اتصالاتها مع شيخ العقل الهجري إذ تلقى اتصالا من السيناتور الأمريكي فرينش هيل وصف أنه على قدر من الأهمية إذ يعكس اهتمام واشنطن بهذا الحراك والتي تسعى من خلفه الضغط على رئيس النظام السوري بشار الأسد.
وقد ترجمت مخاوف النظام بعد انطلاقة الحراك في جبل العرب بزيارة بشار الأسد إلى الصين للبحث عن دعم سياسي واقتصادي يواجه فيه الحراك الشعبي في الجنوب، كما فعل في العام 2015 بالسفر إلى موسكو للبحث في تدخل عسكري روسي ضد الفصائل المسلحة. لكن الصين لن ترسل طائراتها وقواتها، ولن توقع صكا على بياض مع دولة محتلة ومهدمة الأركان، وبدت زيارة الأسد أشبه بزيارة سياحية لحضور افتتاح الألعاب الآسيوية. هذه الهزة الارتدادية هي اليوم محط أنظار دول الثورات المضادة أيضا، والدول المطبعة مع النظام، التي ربما تعيد حساباتها مع هذا النظام الذي لم يطبق أي شرط من الشروط التي طلبت منه تنفيذها، وخاصة تجارة الكبتاغون، والانخراط في حل سياسي مع المعارضة.
وقد صرح العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قائلا: “لقد عدنا إلى بداية الربيع العربي حيث كان الناس يتظاهرون لأنهم كانوا يعانون من أنظمة لا يمكنها توفير الطعام” وأضاف “أعتقد أن بشار الأسد لا يسيطر على سوريا”.
الارتدادية الليبية
شرارة الهزة الارتدادية في ليبيا جاءت بسبب الفيضانات التي أودت بحياة الآلاف بسبب إهمال الحكومة في ترميم السدود التي دمرها ضغط الماء، إزاء هذه الكارثة الإنسانية عاد الشعب الليبي إلى الساحات ليطالب بإسقاط النظام، وفي المنطقة الشرقية التي يحكمها خليفة حفتر هتف الآلاف في الساحات: “الشعب يريد إسقاط البرلمان” وهذا يعني إسقاط النظام برمته.
وكما هي سوريا مجزأة ويبقى الحراك محصورا في منطقة جبل العرب، والمناطق المحررة في محافظة إدلب، بقي الحراك الليبي محصورا في منطقة بنغازي التي شهدت مأساة درنة.
يبقى أن الشعوب الأخرى التي صنعت الربيع العربي وملأت ساحات المدن مطالبة بإسقاط أنظمتها لم تعد غافية، وتتطلع إلى مستقبل أفضل، خاصة وأنها اليوم تمر بأزمات خطيرة لم تتمكن الأنظمة الحاكمة من حلها، وهي تهدد مستقبلها ويكفي أن تنطلق الشرارة لتعود إلى المربع الأول.