لكل إدارة أمريكية حروبها وأخطاؤها فمنذ أن انطلقت الولايات المتحدة الأمريكية من “أطلسيتها” إلى العالمية، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وهيمنتها على العالم بالدولار بعد مؤتمر بروتون وودز، حرصت الإدارات المختلفة على التواجد الأمريكي في منابع الطاقة في “أوراسيا” وخاصة في منطقة الخليج العربي بشكل خاص من ناحية، ومواجهة الاتحاد السوفييتي الراحل المتمدد في مناطق هيمنتها عبر نشر الشيوعية.
فكانت حروب أمريكا المعلنة في الكوريتين، وفيتنام، وتايوان، ونيكاراغوا، وغير المعلنة عن طريق دعم الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية والبلاد العربية. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي شنت حروبها في العراق وأفغانستان.
وقد نبه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إلى أن أوكرانيا القوية والمستقرة هي ثقل موازن حاسم لروسيا، وينبغي أن تكون محور اهتمام وتركيز الاستراتيجية الأمريكية لأن لو تمكنت روسيا من احتلال أوكرانيا فإنها ستعيد إمبراطورتيها السابقة.
تحديات جديدة
ما لم يكن بالحسبان تحقق تنبؤات بريجينسكي في أوكرانيا بعد مغامرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشن حرب استنزاف طويلة الأمد فيها، وصعود الصين عسكريا واقتصاديا وتغلغلها في إفريقيا وتهديدها العسكري لتايوان، والاقتصاد الأمريكي الذي وصفه الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ”القنبلة الموقوته”، بروز إيران كقوة إقليمية مهددة للتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل بحصولها على القنبلة النووية، وسلامة وأمن الخليج العربي، وتمتين القوس الشيعي من طهران لبيروت عبر بغداد ودمشق. تهديد كوريا الشمالية لحليفي أمريكا في شرق آسيا: كوريا الجنوبية واليابان. تبدل سياسات دول خليجية وخاصة السعودية بربط علاقات جديدة مع الصين وروسيا. توجه السياسة التركية “تكتيكيا” نحو روسيا. بروز مجموعة بريكس (روسيا، الصين، الهند، جنوب إفريقيا) المناهضة لأمريكا، وإمكانية انضمام 22 دولة أخرى منها دول عربية، هذه التحديات جاءت مجتمعة في فترة زمنية قصيرة نسبيا أربكت الإدارات الأمريكية، وخاصة إدارة بايدن التي تكافح بشتى الوسائل لمواجهتها، والتي يعد جزء كبير منها بسبب أخطاء سياسات إداراتها السابقة المتكررة.
السياسة البراغماتية
من الصعب جدا ترقيع الأخطاء بعد وقوعها، وخاصة إذا مر عليها الزمن. والولايات المتحدة الأمريكية بسياسة البراغماتية التي تنتهجها (سياسة تجريبية تعتمد على النتائج كمعيار للحقيقة)، زجت ببلاد بأكملها للخراب كما حصل في أفغانستان والعراق، وفيتنام، وخرجت منها جميعا خاسرة ودفعت بها جميعا لانتهاج سياسة معادية لها، فإدارة جورج بوش الابن التي عملت على إسقاط نظام صدام حسين (بحجة واهية بامتلاكه لأسلحة دمار شامل)، وبناء دولة ديمقراطية، وتمكين المعارضة الشيعية، والكردية من استلام السلطة على حساب السنة، وحل مؤسسات الدولة، وتطويف أنظمة الحكم حول العراق لفوضى عارمة، ودولة ينخرها الفساد والتناحر بين القوى الشيعية نفسها من جهة وبينها وبين المكونات الأخرى من جهة ثانية، بل وفتحت الباب على مصراعيه لإيران وميليشياتها التابعة لها لتتحكم بالعراق الذي حولته إلى قاعدة مواجهة مع أمريكا، وفي أفغانستان وبعد أن حاربت الطالبان لعقدين من الزمن بحجة الإرهاب انسحبت منها بطريقة مخزية كما فعلت بفيتنام وعاد الطالبان لاستلام الحكم وسقطت عنهم صفة الإرهاب التي كانت حجة أمريكا بمحاربتهم.
وهي ترتكب اليوم الأخطاء ذاتها في سوريا، فهي تدعم الأكراد المعادين لتركيا حليفتها التاريخية ضد الاتحاد السوفييتي بحجة محاربة الإرهاب “الداعشي” أيضا (داعش القوة العالمية الثالثة العظمى التي لم تتمكن روسيا، وأمريكا، وإيران، وتركيا، والنظام السوري، وحزب الله من القضاء عليها)، مما دفع تركيا لتغيير بوصلتها والاتجاه نحو موسكو في تحالف جديد مع عدو قديم.
جمهورية الموز
أضف إلى ذلك أن تراخي إدارة الرئيس باراك أوباما بمعاقبة النظام السوري على ارتكابه فظائع الجرائم بالأسلحة الكيميائية بحجة عدم إغضاب حليفته إيران في وقت حاولت فيه عقد الاتفاق النووي معها، وكذلك إدارة دونالد ترامب من بعده أيضا، وعدم دعم المعارضة السورية وتمكينها من إسقاط النظام حولت سوريا إلى بلد مجزأ ومدمر، وجمهورية موز مصنعة ومصدرة للمخدرات، تنتشر فيها المسالخ البشرية، ودفعت ملايين اللاجئين إلى الهروب ووضع دول حليفة لها في أزمة استقبال هؤلاء اللاجئين كالأردن وتركيا ودول أوروبية أخرى. وعلاوة على ذلك سمحت لروسيا وإيران باحتلال سوريا وبناء قواعد عسكرية وبحرية فيها تهدد حلف الناتو من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى.
وفي دول الخليج العربي أظهرت إدارة دونالد ترامب استخفافا بها بعد أن طالبها ترامب بدفع “أتاوة” مقابل حمايتها، مع أن المملكة العربية السعودية أظهرت تعاونا كبيرا مع إدارته بدعم اقتصاد أمريكا بعقود “بليونية”، الأمر الذي دفع بها إلى الانفتاح على الصين، وجعلها تلعب دورا كبيرا في التقارب السعودي الإيراني الذي أغضب كثيرا إدارة بايدن.
وعملت الإدارات الأمريكية منذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على دعم جرائمها ضد الفلسطينيين التي لطخت اليوم سمعة أمريكا عالميا باعتراف بايدن شخصيا. وفيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية فإن تراخي الغرب بأكمله إزاء مطامع بوتين ومغامراته في أبخازيا وأوسيتيا وحربه في جيورجيا، ثم احتلاله لشبه جزيرة القرم فسح له المجال لغزو أوكرانيا (رغم تنبيه بريجينسكي قبل ربع قرن تقريبا). ويأتي انقلاب النيجر ليزيد الطين بلة في منطقة تتوسع فيها الصين وروسيا على حساب المصالح الفرنسية الأمريكية التي تقلق واشنطن خاصة وأنها تخشى أيضا انتشار عناصر متشددة في المنطقة.
صفقة كبرى
ورث الرئيس جو بايدن عن سابقيه كل الأخطاء التي أوصلت الولايات المتحدة إلى الأزمة التي تعيشها اليوم وأصبح لا بد من ليس له بد: الترقيع. بدأت حركة دبلوماسية نشطة بزيارات متعاقبة لكبار المسؤولين من وزير الدفاع، ووزارة الخارجية ومن الأمن القومي للشرق الأوسط.
وكتب الصحافي توماس فريدمان في نيويورك تايمز أن الرئيس الأمريكي يبحث بعمق في صفقة كبرى في الشرق الأوسط، تقوم على اتفاق أمني مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية، والموافقة على بيع أسلحة متطورة، وبناء مفاعل نووي، واستكمال عمليات التطبيع مع إسرائيل بجر المملكة إلى “اتفاقيات إبراهيم” والمهندس للعملية مستشاره الخاص جاك سيليفان الذي أجرى محادثات مطولة مع ولي العهد محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد مقابل وضع قيود كبيرة على العلاقات المتنامية بين السعودية والصين، ودخلت وزارة الدفاع الأمريكية في حوار مع وزارة الدفاع العراقية في واشنطن في بداية آب/ أغسطس الحالي في تأكيد للجانبين على الالتزام الأمني والاستقرار الإقليمي لردع النشاط المزعزع للاستقرار وتخفيف التوترات الإقليمية الناجمة عن مضايقات إيران ومصادرة السفن التجارية. وقال الأسطول الخامس الأمريكي في بيان: “وصل أكثر من 3000 بحار إلى الشرق الأوسط في 6 آب/أغسطس كجزء من خطة وزارة الدفاع “، مضيفا أن “السفينة الهجومية البرمائية يو أس أس باتان وسفينة الإنزال يو أس أس كارتر هول وصلتا إلى منطقة الخليج. ومقاتلات إف -35 ومقاتلات إف -16 في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية للدفاع عن المصالح الأمريكية، وحماية حرية الملاحة في المنطقة (بعض الطائرات حطت في قاعدة التنف في سوريا حسب بعض المصادر).
هذه الإجراءات الأخيرة المتأخرة إن تنم عن شيء فهي تنم أيضا عن احتمالات الأسوأ، فهي تحضر نفسها لأي طارئ أو لعمل عسكري محتمل في المنطقة في حال تطور الأحداث في أوكرانيا واضطرار روسيا لرفع سقف الهجوم بأسلحة غير تقليدية لتفادي خساراتها في حرب استنزاف طويلة تقودها الولايات المتحدة مع حلف الناتو بدعم مستمر لأوكرانيا، والتي ربما تتوسع رقعتها لتصل إلى منطقة الشرق الأوسط وخاصة سوريا بعد الاحتكاكات المتكررة بين الطائرات الروسية والأمريكية، وفي حال تم الوقوع على الخيار العسكري بالتنسيق مع إسرائيل أيضا لردع إيران من امتلاك سلاح نووي يقلب كل موازين القوى في منطقة تقع على “كف عفريت”. فهل يصلح عطارو بايدن ما أفسدته الإدارات الأمريكية السابقة؟
كاتب سوري
كلمات مفتاحية