(عن القدس العربي)
حقق الإنسان ثورات عدة في عالم الإعلام، فالثورة الأولى التي أنجزت مع مطبعة غوتنبرغ في القرن الخامس عشر، كانت انطلاقة لظهور الصحافة المكتوبة كأول وسيلة إعلامية جماهيرية. والتي تطورت على مدى قرنين بعد انطلاقتها الأولى في العام 1636 مع لاغازيت لمؤسسها تيوفيل رونودو في فرنسا.
اختراع المذياع
نشأت الصحف ثم المجلات المتخصصة، والمصورة، ومع كل تقدم علمي كان يتبعه تقدم في المجال الإعلامي، فاكتشاف الموجات الهرتزية تبعه اختراع المذياع في العام 1920، وظهور الصورة الثابتة ثم المتحركة، تبعها اختراع السينما والتلفزيون. لكن كل هذه الوسائل لم يكن للمجتمعات تأثير مباشر فيها، فهي كانت حكرا على الدولة، وخاصة في الدول ذات الأنظمة الشمولية حيث تحظر الإعلام الخاص. بيد أن اختراع الأقمار الصناعية، والمعلوماتية (الحاسوب الآلي)، ثم الإنترنيت وتطبيقاتها، والهواتف النقالة، قلبت مفاهيم الإعلام بسرعة كبيرة، واختلت موازين الأنظمة المتحكمة بالإعلام بعد نشوء وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، انستغرام، يوتيوب) فالإعلام أصبح أفقيا بين مختلف شرائح المجتمع على مستوى عالمي، بعد أن كان عموديا من السلطة الحاكمة إلى الجماهير.
اليوم ينتقل العالم خطوة أخرى في عالم الإعلام بالتطور الكبير “للذكاء الاصطناعي” وصار حديث الهيئات المتخصصة، ومجموعات “الدردشة” التي تحاكي تطبيقات قادرة على التجاوب مع الشخص المحاور.
المجالات الحيوية للإنسان
الذكاء الاصطناعي استطاع أن يدخل كل المجالات الحيوية للإنسان، من محاسبة، وطب، وهندسة، وكل النشاطات الأخرى التي سهلت الكثير من الأعمال، وخفضت ساعات الجهد التي كانت مخصصة للبحث فتطبيق “غوغل مثلا” يقدم المعلومة في لحظة طلبها، وتطبيق إكسل سهل كل العمليات المحاسبية، وبور بوينت في عرض المشاريع، والتعليم، والكتابة، والترجمة، وجمع المعلومات والتحليل المالي، ومهارات في مجالات مثل الإحصاء وعلوم الكمبيوتر مع المعرفة العلمية لتحليل البيانات التي يتم جمعها من مصادر متعددة، وسواها.
مع كل اختراع لوسائل اتصال كان يرافقها مخاوف من انعكاساتها على المجتمع، وعلى الأطفال، والمراهقين، وخاصة الإدمان على استهلاك هذه الوسائل، والتأثر بما تقدمه من برامج ومعلومات، وغزو ثقافي.
واليوم بدأت تتشكل بعض المخاوف من “الذكاء الاصطناعي” لأسباب عدة، فأكثر من شخصية من “سيليكون فالي” ومنها إيلان ماسك مالك تويتر، وستيف فوزنياك مؤسس شركة “أبل” طالبت بوقف كل برامج الذكاء الاصطناعي لستة أشهر على الأقل إلى حين اعتماد أنظمة حماية، تتيح تنظيم هذه العمليات ومراقبتها وتحليل المعلومات الواردة فيها. فتطبيق شات جي بي تي 4 المتطورة عبر الإنترنت تتيح للمستخدم الوصول إلى المعلومة بسرعة ودقة عالية بل ويمكنه التخاطب معها.
وتأتي هذه المخاوف من فقدان الكثير من المواطنين، بل وخطر التدخل في الخصوصيات، والمعلومات الشخصية. منظمة اليونسكو دعت في العام 2021 إلى تطبيق توصية تشدد على “إنشاء أداة تشريعية لتنظيم الذكاء الاصطناعي ومراقبته” تضمن كذلك “الأمن واستحضار البعد الأخلاقي في طموح الدول الاستفادة من هذا التطور التقني حتى يتم تقليل المخاطر الناجمة عنه، وأن هذه التقنية تخلق تحديات كبيرة، خصوصا نشرها لمعلومات مضللة، وأخرى فيها انتهاك لحقوق الأفراد، والمجموعات”، ويتساءل المطالبون بوقف تطوير الذكاء الاصطناعي عن جدوى تطوير :” عقول غير بشرية ربما قد تفوقنا يوما عددا، وتتفوق على عقل الإنسان وعن خطر المجازفة بفقدان السيطرة على الحضارة البشرية”. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها المطالبة بضمانات في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي، وجميعها تركز على أمان المستخدم، وضمان تصميم الأنظمة بما يتوافق مع الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات والتنوع الثقافي والخصوصية، وتحديث للنظام القضائي كي يتمكن من البت في قضايا الذكاء الاصطناعي.
الصور المزيفة
من المخاوف التي لها انعكاسات خطيرة على مستوى المعلومة المزيفة، هي تزييف الصور التي تمنح برامج الذكاء الاصطناعي أي شخص القدرة على خلق أي صورة بسهولة وبسرعة كبيرة، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، فيمكن أن تزيف صورة بن لادن مثلا وتقول إنه مازال حيا، وهو يمسك بجريدة اليوم، أو أن يتم تزييف صور الزعماء، أو الشخصيات المعروفة، ونجوم السينما والمشاهير، وقد شهدنا الكثير من الصور المزيفة التي أثارت بلبلة لنكتشف فيما بعد أنها مزيفة، وعمدت وكالات الأنباء والصحف الكبرى على رصد الصورة المزيفة من الحقيقية، فقد تم مؤخرا مثلا نشر صور للبابا فرنسيس وهو يرتدي معطفا كبيرا، أو صورة لاعتقال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ويعمد البعض لنشر مثل هذه الصور لتحظى بعدد من المشاهدات الكبير تصل إلى عدة ملايين مشاهدة. فالمسألة بالطبع تسيء للضحية وربما بقي الخبر في أذهان متلقيه لينقله إلى متلق آخر دون أن يتحقق إن كانت الصورة صحيحة أو مزيفة، وهذا ما يتطلب بالطبع قوانين تضبط استخدام الذكاء الاصطناعي، كي تجرم من يسيء استخدامها. ولكن هل يمكن إيقاف التطور في أي مجال من مجال العلوم والتكنولوجيا؟ من الصعب جدا تحقيق ذلك فكل التحذيرات السابقة فيما يخص تطوير مجالات عديدة مثل الاستنساخ، أو الحد من الأسلحة النووية، أو من انبعاث الكربون والغازات الدفيئة، وسواها لم تؤخذ بعين الاعتبار، وسيظل الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا رفيعة بمقدرتها تشويه بعض الحقائق وتشوش الإعلام، وربما تهدد العقل البشري نفسه.
كاتب من سوريا