فيروز والشام

فيروز
فيروز


نهضت صباحا "بقدم يسرى" كما يقول الفرنسيون، أي معكر المزاج، فمعايشة مآسينا اليومية نحن السوريين لا تفسح للسرور مكانا في القلب. فصور الأطفال المشردين الجائعين تجعل في الحلق غصة، وكل ما جرى، ويجري منذ أكثر من نصف قرن في سوريتنا الغالية يدفع المرء لليأس، وفقدان الثقة بكل من يتاجر بسوريا والسوريين. أدرت المذياع فصدح صوت فيروز:" شآم أهلوك أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آن الكرم يعتصر"، عادت بي الذكرى إلى مسرح معرض دمشق الدولي التي كانت ذات الصوت الملائكي تقيم حفلاتها أواخر الصيف ويهرع أهل الشام زرافات ووحدانا ليملأوا المسرح الفسيح ويصفقوا كثيرا لذاك الصوت الذي ملأ الأفئدة بالكلمة الحلوة واللحن البديع. عشنا في سوريا على صوتك يا فيروز كل صباح مع فنجان القهوة، وباب الأمل من الرحيم: "صبح الصباح فتاح يا عليم والجيب ما فيه ولا مليم، بس المزاج رايق وسليم". افتقدنا تلك الصباحات معك يا جارة الوادي وما يشبه الأحلام من ذكراك، صوتك ملأ مسامعنا في غربتنا الموحشة واعذرينا على تقصيرنا، فأعرابنا لا يذكرون كل عظيمة وعظيم، ولا مبدعة ومبدع إلا بعد رحيله، وأنت تستحقين منا كل التقدير والاحترام في حياتك، وبعد الرحيل، وستقيمين معنا ما أقامت ميسلون. مع الدعاء لك بدوام الصحة والعافية. لم نر زعيما عربيا واحدا خطا خطوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي حضر إلى بيتك ليكرمك بوسام الشرف الفرنسي، اعترافا بفنك المبدع، وما قدمته من روائع الإنتاج الموسيقي من أغان ومسرحيات هادفة. المبدع العربي يكرم خارج بلده إذا لم "يستزلم" للنظام الحاكم، هذا إذا نجا من الاعتقال أو الاغتيال، وفي أفضل الأحوال من التهميش. غنت فيروز لكل قضية:" لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن، يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي" كانت بعد هزيمة النكسة، واجتمع العرب على لاءتهم الثلاث:" لا سلام، لا تفاوض، لا اعتراف"، اليوم وصلنا يا فيروز إلى:"نعم للسلام، نعم للتفاوض، نعم للاعتراف" ولو كان على حساب الفلسطينيين الذين يقتلون يوميا برصاص الاحتلال، وينفي وزير الاحتلال حتى وجود الشعب الفلسطيني. وقالها نزار قباني:"عفوا فيروز معذرة أجراس العودة لن تقرع"، ولم تقرع الأجراس أبدا، بل بدأت موشحات "أبراهام" والجري نحو تل أبيب. فيروز : " غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعي عيدا" لعملاق الشعر سعيد عقل فهل هناك من تملأ العيد أضلعه اليوم، أم أن بأي حال عدت يا عيد.."ومرمر يا زماننا مرمر". يا سمرا يا أم عيون وساع والتنورة النيلية، إذا ضاقت بك الأمكنة نضعك في أعيننا، أنت التي سخرت الكلمة واللحن والصوت لسعادتنا، لأحزاننا، ولمآسينا: "كأنا خلقنـــــا للنـــــوى وكأنــــما حـــرام على الأيــــام أن نتجــــمعا". قلت في بيروت :" يا مينا الحبايب" يا حسرتنا على بيروت، قلت في الشام:" شآم يا ابنة ماض حاضر أبدا كأنك السيف مجد القول يختصر" يا حسرتنا على الشام، غنيت لبغداد:" عَيناكِ يا بغدادُ أُغنيةٌ يَغْنَى الوُجودُ بِها ويُختَصَرُ" يا حسرتنا على بغداد. رشفنا من قهوتنا كثيرا وثملنا بمخمل صوتك: "وبغيبتك نزل الشتي قومي طلعي ع البال، في فوق سجادة صلا والعم يصلوا قلال". وليالي الشمال الحزينة، و"رجعت الشتوية" ولم نجد من ينطرنا، بل نطرونا "كثير ع مفرق دارينا لا عرفنا أساميهن ولا عرفوا أسامينا". رشفنا من قهوتنا على شرفة الغربة وسرت في أبداننا ذكرى نسمة بردى، وقلنا أين هي فيروز فلا قهوة بدونها، وبدون كأس ماء بردى، قلت: "مر بي يا واعدا وعدا مثلما النسمة من بردى" ولحظ الشآمية بعيد لم يرق لنا. و"نسم علينا الهوا من مفرق الوادي، وتوسلنا يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي. غناؤك كان سر الوجود، وغناؤك سيبقى بعد أن يفنى الوجود. يا فيروز شايفة البحر شو كبير، وشايفة يا فيروز السما شو بعيدة، بكبر البحر، وبعد السما بنحبك يا فيروز بنحبك.