( عن القدس العربي)
عندما أطلق السوريون ثورتهم السلمية في آذار/ مارس 2011 ونادوا بالحرية، وبالشعب السوري الواحد الموحد، لم يعلموا أنهم أطلقوا زلزالا سياسيا بدرجة عالية على مقياس الهزات السياسية الكبرى، وأن هذه الهزة ستضرب سوريا بهزة اجتماعية، واقتصادية، وبنيوية، وجغرافية أيضا. فما حصل في سوريا والسوريين كان خارجا عن حسابات العقل والممكن. ولا يمكن لأي زلزال في القشرة الأرضية مهما بلغت قوته أن تصل أضراره ما وصلت إليه في سوريا.
عندما انطلق السوريون في ثورتهم كانوا يصبون ليس إلى إسقاط نظام سياسي جثم فوق صدورهم زهاء أربعة عقود ونيّف، بل لبناء سوريا جديدة بنظام سياسي يضمن لهم الحرية والمساواة والكرامة. فكانت النتيجة أن قام نظام الأسد بتوجيه كل أنواع أسلحته ضد الشعب السوري وخاصة الأسلحة الكيميائية المحظورة دوليا، والبراميل المتفجرة التي تسببت بأضرار كبيرة فقتلت أكثر من نصف مليون قتيل (حسب تقديرات أخرى وصل عدد القتلى إلى 700 ألف شخص)، وما يعادله من المصابين على أقل تقدير، كما أحصي أكثر من مئة ألف شخص قتلوا تحت التعذيب خلال اعتقالهم في سجون النظام، ولايزال أكثر من مئة ألف آخرون رهن الاعتقال يضاف إليهم مئتا ألف شخص في عداد المفقودين (حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، هناك قرابة ثمانية ملايين لاجئ (جلهم في تركيا، ولبنان، والأردن، وألمانيا)، حوالي مليوني سوري نازح يعيش معظمهم في مخيمات في شمال شرق سوريا ومناطق أخرى في ريف حلب (حسب إحصائيات الأمم المتحدة)، حوالي 4 ملايين شخص يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة في إدلب، 2,5 مليون يعيشون تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، وحوالي 11مليون شخص يعيشون في مناطق سيطرة النظام. وهناك أكثر من 2,4 مليون طفل سوري خارج إطار النظام التعليمي.
الهزة الاقتصادية
ضرب قصف جيش النظام السوري، والروسي، والميليشيات الإيرانية المختلفة بالإضافة إلى الميليشيات العراقية الموالية لإيران، وحزب الله اللبناني إلى دمار البنية التحتية في سوريا. وحسب تقديرات للأمم المتحدة نشرتها في العام 2020 فإن حجم الدمار يقدر بـ 50 في المئة من البنية التحتية، منها 70 في المئة من محطات الكهرباء، 50 في المئة من المدارس والمعاهد التعليمية، دُمّر أو تضرر أكثر من خمسين في المئة من البنى التحتية الصحية وخاصة المستشفيات، وقتل العديد من الأطباء والكوادر الصحية، وفر الآلاف منهم خارج سوريا. وتقدر الخسائر المالية للأضرار التي لحقت بمختلف القطاعات في سوريا بما ينوف على 600 مليار دولار.
وقد تسبب الوضع الاقتصادي المتردي في انخفاض سعر الليرة السورية مقابل الدولار، وتجاوز سعر الدولار 7 آلاف ليرة سورية، وتدنى دخل الفرد إلى مستويات لا سابق لها إذ وصل وسطيا إلى 20 دولارا في الشهر، مع ارتفاع في نسبة التضخم، والبطالة، وتدني الخدمات الأساسية كالكهرباء، والماء، والنقل، والصحة، والتعليم.
بعد الزلزال الذي ضرب السوريين بسبب ثورتهم، جاء زلزال كهرمان مرعش ليثخن جراحهم ويعمقها أكثر، ورغم نتائجه المأساوية فهو لا يقارن بالزلزال الأول بكل المقاييس، إذ اقتصر على المناطق الشمالية الغربية في سوريا (إدلب، حلب، حماة، اللاذقية، طرطوس)، وأدى إلى خسائر بشرية تقدر بـ 5900 شخص، وإصابة 20 ألف آخرين منهم 390 شخصا في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة حسب منظمة الخوذ البيضاء.
لكن ما يحزن السوريين ليس على ضحاياهم فقط، بل على توظيف مأساتهم لإنقاذ النظام الذي حاول بدوره استغلال نكبة الزلزال للخروج من عزلته، فكثير من الدول وخاصة العربية وجدتها فرصة (بعد أن كانت مترددة أو رافضة) للتطبيع مع النظام، كتونس في تصريحات الرئيس قيس سعيّد الذي أكد على ضرورة إعادة العلاقات مع سوريا “الدولة”، والأردن الذي زار وزير خارجيته أيمن الصفدي دمشق والتقى رئيس النظام بشار الأسد، وتصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي قال: “سترون أن إجماعا يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، وفي ظل غياب سبيل لتحقيق “الأهداف القصوى” من أجل حل سياسي فإن نهجا آخر “بدأ يتشكل” لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمر في سوريا وتركيا … لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية خاصة فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك”. ثم زيارة بشار الأسد لسلطنة عمان التي عبر فيها سلطان عمان هيثم بن طارق عن رغبة بلاده بأن تعود العلاقات العربية مع سوريا إلى وضعها الطبيعي. ودوليا قامت تركيا بعدة لقاءات مع مسؤولين من النظام السوري في محاولة لتطبيع العلاقات والترتيب للقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأسد، ورفعت الولايات المتحدة عقوباتها المتعلقة بالمساعدات الإنسانية عن النظام.
تسريع الانفتاح
ويبدو واضحا أن زلزال كهرمان مرعش سرع في الانفتاح على النظام السوري الذي كان بالأمس منبوذا بسبب كل الجرائم بحق شعبه، ولكن اليوم تتحول المأساة السورية من تحقيق أهداف ثورة مطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش بكرامة، والتخلص من نظام ديكتاتوري، طائفي، مخابراتي دمر سوريا وشرد شعبها وحولها إلى دولة محتلة من قبل قوى إقليمية ودولية إلى مسألة إنسانية ـ بنظر معظم الدول العربية وما شابهها بالموقف من دول أخرى ـ تتمثل في إيجاد حل للاجئين، والنازحين، والبحث عن حلول لإعادة الإعمار خارج إطار الأمم المتحدة، والقرار الأممي 2254. والضغط لرفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، وعودة النظام إلى الجامعة العربية، بما يسمح لبشار الأسد بارتكاب مجازر جديدة عبر رغبته بوأد الثورة السورية نهائيا بالتحضير لزلزال ثالث تجتمع فيه قوات سورية ـ روسية ـ إيرانية لشن معركة أخيرة لبسط سيطرة النظام على مناطق المعارضة في إدلب وريف حلب تحت ذريعة القضاء على الإرهابيين.
كاتب سوري