من بين الأنقاض انتشل المسعفون رضيعة ولدت للتو، أصاخوا السمع إلى خراسانات الحديد والاسمنت القاتلة الصامتة، من بين شِعَبها سمعوا بكاء خافتا، عندما نبشوا المكان كانت وليدة بحبل سرتها الذي مازال متصلا برحم أمها التي فارقتها الحياة. من هذا الرحم الميت ولدت حياة، تنفست ما تبقى من هواء تحت ركام، واستقبلت الدنيا بوفاة والديها، وفي لحظة مأساة كبيرة. ستكون وحيدة في صراع البقاء مع نوائب الدهر، كأنها تمثل سوريا بأكملها التي تئن تحت أنقاض سنين القهر والجوع والموت.
نجت الطفلة رغد من بطش الزلزال الذي لم يرحم ذويها أيضا، ولم يرحم أطفالا آخرين جانبهم الحظ وهم تحت كتل الركام المنهار، وتوسلت طفلة أخرى المسعفين لإخراجها وأختها من تحت الأنقاض وهي تضع مرفقها على رأسها خوفا عليها، وقالت لمسعفها:"أخرجني مع أختي وسأكون خادمة لك". وصور تقطع نياط القلب لرؤية أطفال فرت أرواحهم مبكرا إلى الجنة. آباء وأمهات فجعهم الزلزال بأولادهم. يد أب يمسك بيد ابنته التي قضت ولم يظهر منها سوى يدها الغضة. وآخر ينعي أطفاله الثلاثة، وآخر بناته الثلاث، جاء الموت خبط عشواء لم يتوقعه أحد فجر يوم كئيب. هكذا بين ومضة وومضة تحول كل شيء إلى حطام. هل قدر السوريين أن تصيبهم كل مآسي الدهر، هل ستلد سوريا الجديدة كالطفلة من رحم الموت، لقد طال الجور، وتشعبت جذور الحزن في قلوبنا، وجف الدمع في مآقينا. صرخ السوريون يوما يا الله ما لنا غيرك يا الله، واليوم يصرخون أيضا يا الله ما لنا غيرك يا الله. لأن أحدا لم ينصرهم في مآسيهم، كان العالم بآسره يسترق السمع والبصر إلى معاناتهم دون تحريك ساكن، وإذا كانت المأساة كبيرة اليوم بسبب زلزال مدمر ذلك أن ملايين السوريين هجروا ديارهم وباتوا في ديار بعيدة متواضعة، ومنها ما أصابه وهن من قصف الطاغية فانهارت جميعها فوق رؤوس ساكنيها كقصر من ورق. واليوم يتاجر الطاغية بمأساتهم بهدف التخلص من العقوبات على نظامه الكيماوي. مأساة السوريين اليوم هي امتداد لمأساة طال الزمن بها منذ أن استوى الطاغية الأكبر على عرش سوريا ليحولها إلى أرض الفقر، والدم، والقبور. من رماد هذه الفاجعة الكبرى لا بد لسوريا أن تنبثق بحياة جديدة كطائر الفينق وتنفض بجناحيها، كما فعلت دائما، رمادها وتحلق من جديد.