كنا صغارا حليبنا كان محلى بالوطنية، والقومية، نقف صفا واحدا صباحا وننشد: "حماة الديار عليكم سلام"، ثم نتلوه ب:"قسما بالنازلات الماحقات" النشيد الوطني الجزائري لأن ذاك الوقت كان قلبنا العروبي ينبض في بطينه الأول فلسطين، وفي بطينه الثاني الجزائر. كانت أياما تتبرع فيها النساء بخلاخلهن، وعقودهن، ويقصصن شعرهن ويبيعونه لنصرة من سكن البطينين. كانت خمسينيات القرن العشرين تتراكم الأيام في أعمارنا الغضة محملة بأحداث جسام لم نكن نعي أهميتها، جاءنا مصري أسمر ألهب مشاعرنا، خاض حربا ضد دول ثلاث بعد تأميم قناة السويس ضد فرنسا وبريطانيا ودولة الاحتلال، وأضفنا نشيدا ثالثا إلى جوقة الصباح: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. ورقص الشعب السوري طربا للوحدة لأنها ستكون نواة لدولة قوية تحرر ترابا مقدسا اغتصب، وقامت عليه دولة تهددنا وتريد أن تحتل أراضينا. كبرنا مع الحدث، وامتزج دمنا بكريات جديدة أسمها النضال. النضال من أجل التحرر من الاستعمار، من الجهل، من الفقر، من التخلف، من الطائفية، من القبلية، من التبعية، ومن الفساد. استفقنا على انقلاب الانفصال فتحول الحلم إلى كابوس ودار في رؤوسنا إشارات الاستفهام الأولى: لماذا ننفصل عن أم الدنيا، لماذا لم نعد ننشد بلادي بلادي لك حبي وفؤادي؟ ثم جاءنا البعث بشعاراته الطنانة الرنانة التي تطابقت مع كرياتنا النضالية، وحقن دماءنا بأوهام حلم بناء دولة تصعد بنا درجات معارج الحضارة، وتضعنا في مصاف دول ناشئة تسلك طريقا سالكا يحررها من مجموعة العالم الثالث الدنيا، وتدخلنا في نادي المجموعة العليا على أقل تقدير، ألسنا أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ونرنو إلى الوحدة والحرية والاشتراكية..عشنا مراهقتنا في الوهم، والخديعة، سعدنا بلباس الفتوة في صفوفنا الثانوية وتسليمنا بندقية خاوية لا تساوي عصا، وجمعونا في معسكرات تدريبية لنكون سندا في حرب التحرير من الماء إلى الماء. وفاحت روائح الطائفية الأولى تزكم الأنوف، ثم شهدنا صراع الأجنحة في البعث القطري، وفاز الطائفيون الذين سيحولون سوريا إلى مزرعة، ودولة مخابرات، وأقبية أمن وسجون، ثم إلى مسلخ بشري بمجازر بدأت في حماة في مثل هذه الأيام منذ إحدى وأربعين سنة كانت جرحا لا يندمل في ذاكرة الشعب السوري، منذئذ لم تتوقف المجازر، وصار لها أسماء آخرى: الغوطة، خان شيخون، خان العسل، دوما، الحولة، قويق، حي التضامن.. جروح أخرى لن تندمل.