من الشعب السوري إلى شعوب سوريا

صورة تعبيرية عن معاناة الشعب السوري جراء جرائم النظام السوري
صورة تعبيرية عن معاناة الشعب السوري جراء جرائم النظام السوري

(عن القدس العربي)

لم تكن سوريا يوما دولة مستقلة في حدود جغرافية محددة إلا مع أول يوم من عيد الاستقلال في 17/4/1946. فاتفاقية سايكس بيكو التي قسمت سوريا الكبرى كقطعة لحم بالشوكة والسكين تركتها السلطنة العثمانية خلفها بين فرنسا وبريطانيا، فنشأت دول حول سوريا التي تم رسم حدودها ليكون غير نهائي. ففي العام 1939 تم سلخ لواء اسكندرون لصالح تركيا ومعه كل سكان المدن والقرى السوريين الذين أصبحوا أتراكا فيما بعد، ثم تم احتلال الجولان في العام 1967 من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي فوقع تحت سيطرتها كل السوريين الذين يقطنون خمس بلدات أكبرها مجدل شمس والغجر، وحدها الغجر وافق سكانها (العلويون) على الحصول على الهوية الإسرائيلية، ورفض سكان البلدات الأخرى (الدروز) الهوية الاسرائيلية.

السوريون الذين رزحوا تحت الانتداب الفرنسي، الذي كان يخطط لتقسيم سوريا إلى خمس دول، رفضوا هذا المخطط وقاموا بالثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش وأفشلوا المخطط الفرنسي. فالشعب السوري المؤلف من مكونات مختلفة طائفية وعرقية كان يشكل لحمة واحدة متآلفة رغم الاختلافات (وليس الخلافات) العرقية، والدينية، والطائفية.

حزب البعث، الذي نشأ مع الاستقلال وانخرط في العمل الحزبي ورشح نفسه لأكثر من عملية انتخابية وفاز بمقاعد في البرلمان في عدة عمليات انتخابية محترما المبادئ الديمقراطية التي عرفتها سوريا في ثلاث فترات ذهبية (1946ـ 1949) و (1954ـ1958)، و(1961ـ 1963)، لم يحترم هذه القواعد بعد انقلابه على السلطة الشرعية في 8 آذار/مارس 1963. رغم شعاراته وأدبياته التي تنادي بالوحدة والقومية فقد ألغى الأحزاب وصادر الصحف، وأرسى سياسة الحزب القائد (التي هي في الواقع الحزب الواحد). هذا الحزب، الذي يسيطر على البلاد حتى اليوم، لعب دور الواجهة التي تخفي خلفها عسكرة السلطة، وتطويفها لصالح الطائفة العلوية، وعائلة ستصبح العائلة الحاكمة، وعندما اندلعت الثورة ضد حكم العائلة التي حكمت الشعب السوري بالحديد والنار أطلقت شعارها: «الأسد أو نحرق البلد» فأحرقت البلد قولا وفعلا. وبدأ طور الشروخ في الشعب السوري ليتحول إلى شعوب سوريا.

العلويون

قدر المكتب المركزي للإحصاء في آخر مسح في العام 2018 عدد السكان الذين تواجدوا على الأراضي السورية بنحو 25 مليون نسمة، يشكل العلويون (النصيريون) حوالي عشر السكان، ويتواجدون في منطقة الساحل السوري التي حاول الانتداب الفرنسي أن يجعل منها دولة للعلويين، لكن بعد انقلاب حافظ الأسد و»علونة» الدولة ازداد تواجدهم في المدن السورية. ومع بدء الثورة في 2011 اعتمد نظام الأسد على الطائفة في مساندة نظامه بزج أبناء الطائفة في أتون الحرب ضد المكون السني الذي يمثل الأكثرية حوالي 75 في المئة من السكان وتصريحات بعض المسؤولين العلويين ومن يواليهم تؤكد مدى الشرخ الطائفي ليس فقط مع السنة ولكن مع الطوائف الأخرى ففي تهديد أرسله رئيس فرع المخابرات الجوية غسان إسماعيل لغيث البلعوس نجل الشيخ وحيد البلعوس بعد انتفاضة أهالي السويداء مؤخرا وإحراق مبنى المحافظة يقول فيه: «عفسنا بقلب 20 مليون سني ومش عاجزين عنكم يا دروز» ووصمهم موال آخر بأنهم «جبل الجرب» بدل جبل العرب، فعمق الشرخ الطائفي جعل الطائفة العلوية ينظر إليها كمكون منفصل يواجه المكونات الأخرى وينوي في حال فشله في السيطرة على سوريا العودة إلى بناء الدولة العلوية في الساحل.

يقطن الأكراد في سوريا بشكل أساسي في ثلاث مناطق ضمن الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا في محافظة الحسكة: عفرين وكوباني (عين العرب) وقامشلي. ويتواجدون في معظم المدن السورية أيضا بعد أن شهدت المناطق الكردية هجرات متعددة نحو المدن الكبرى بحثا عن العمل والتعليم، ومناطق الريف السوري للعمل في الزراعة والرعي، وغالبية الأكراد هم من المسلمين السنة ويشكلون حوالي 10 في المئة من السكان.

وكان الأكراد على مر التاريخ السوري يشكلون عنصرا أساسيا في صلب الشعب السوري وساهموا في كل النشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية وبرز منهم شخصيات كبيرة حكمت سوريا وتبوأت مناصب عليا. في عهد حكم البعث وعائلة الأسد تم تهميشهم كسائر المكونات السورية الأخرى، وتم قمع انتفاضة قاموا بها بوحشية في العام 2004، وبقي عشرات الآلاف منهم دون هوية سورية، ورفضت حكومات الأسد المتعاقبة تسوية وضعهم والاعتراف بهم كسوريين.

مع بداية الثورة شهدت المناطق الكردية تغيرات جذرية وانقسامات حزبية وسياسية جزء منها التحق بالمجلس الوطني السوري، وآخر عمل على تكوين وحدات عسكرية تحت مسمى «وحدات حماية الشعب الكردي» التي تطالب بالاستقلال الذاتي وتطمح في بناء دولة (روجافا) وتلقت دعما من أمريكا واشتركت معها في الحرب على تنظيم «الدولة» (داعش) وهي تسيطر اليوم على مساحات واسعة في شمال شرق سوريا وتسيطر على آبار النفط فيها، وتقيم تحالفا مع حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، ما أثار حفيظة تركيا التي قامت بعدة عمليات عسكرية ضدها بدعم من فصائل المعارضة المسلحة وتنوي حاليا شن عملية واسعة النطاق للسيطرة على ثلاث مدن سورية (منبج وتل رفعت وكوباني).

لاجئون ونازحون

منذ بدء الثورة حتى اليوم اضطر عدد كبير من السوريين إلى النزوح عن ديارهم والتوجه نحو مناطق سيطرة المعارضة في محافظة إدلب التي تتضمن كل مخيمات النزوح، وهذه المنطقة البعيدة عن سيطرة النظام الذي يواصل قصفها وقتل المدنيين فيها باتت تشكل شبه دولة داخل الدولة، ويتربى فيها جيل جديد يفتقد للكثير من متطلبات الحياة من تعليم، وصحة، وعمل، والغالبية العظمى منهم من المسلمين السنة بعد أن أفرغت قرى الشيعة منها (الفوعة وكفريا ونبل والزهراء). من جانب آخر وخلال السنوات العشر الماضية تشكل عنصر جديد في صلب المجتمع السوري، هو عنصر اللجوء، فتوزع ملايين السوريين على دول اللجوء وكونوا مجتمعات جديدة تحت ظروف مختلفة وأجواء جديدة منهم من وصل إلى أوروبا وخاصة ألمانيا (حوالي مليون لاجئ سوري)، وباقي الدول الأوروبية بنسب متفاوته، وتركيا (حوالي 4 ملايين)، ولبنان (حوالي مليون ونصف)، والأردن (حوالي المليون لاجئ)، وعدة دول عربية أخرى كمصر وليبيا وتونس والعراق. نسبة كبيرة من هؤلاء حصلت على جنسية بلاد اللجوء وخاصة في أوروبا، ونسبة لا بأس بها في تركيا، وتمكنوا من بناء حياتهم من جديد وانخرطوا في المجتمعات الجديدة وتعلموا لغاتها وأبناؤهم يتلقون التعليم فيها ولا يفكر أحد منهم بالعودة إلى حضن الوطن، وسيتحولون مع الوقت إلى حمل هوية بلد اللجوء إلى هويتهم الأصلية. أما اللاجئون في لبنان والأردن الذين فيرفضون العودة قبل سقوط نظام الأسد فهم بدورهم يشكلون مجتمع المخيمات في هاتين الدولتين (في الدول العربية الأخرى لا توجد مخيمات). المكونات الأخرى للشعب السوري كالمسيحيين، والاسماعيليين، والشركس، والآشوريين، والتركمان فهم يشكلون أيضا مجتمعات متفرقة منفصلة بعضها عن بعض معظمها يعيش تحت سيطرة النظام مع باقي المكون السني، وجميعهم مغلوب على أمرهم ويعيشون تحت خط الفقر والقمع. هذه باختصار خارطة الشعب السوري اليوم الذي توزع على الخارطة العالمية ولم تعد تجمعه أرض واحدة، ولا مواطنة مشتركة.

كاتب سوري