كموجة التطبيع مع دولة الاحتلال التي شهدناها خلال العامين الماضيين على حساب الشعب الفلسطيني الذي ترك في الساحة وحيدا في مواجهة وحشية الصهاينة جيشا ومستوطنين، نشهد هذه الآونة موجة تطبيع مع النظام السوري تقودها تركيا وروسيا، ودول عربية تسعى لإعادة نظام الأسد إلى مقعده في الجامعة العربية. ويصادف الإعلان عن هذه الموجة غير المتوقعة من تركيا والتي تسارعت وتيرتها في الأيام الأخيرة وكأن هناك سباقا مع الزمن، الذكرى التاسعة لمجزرة الكيمياوي التي ارتكبها النظام في الغوطة الشرقية وراح ضحيتها 1450 شخصا من بينهم مئات الأطفال. هذه الجريمة الكيماوية كانت الأولى ضمن سلسلة عشرات الهجمات الكيماوية في خان العسل وخان شيخون وسواهما التي استخدم فيها النظام غاز السارين والخردل والكلور. هذه الجرائم التي توعدت فيها الولايات المتحدة النظام بالعقاب الشديد باعتبار استخدام السلاح الكيمياوي خطا أحمر كان كلام ليل يمحوه نهار المصالح. فمصالح واشنطن آنئذ كانت التسريع بالتوقيع مع إيران على الاتفاق النووي، وكان الرئيس باراك أوباما لا يريد أن يثير حفيظة طهران بضرب حليفها النظام السوري بحيث يمكن أن يؤثر على التوقيع، فتغافل أوباما عن خطوطه الحمر واكتفى بقصف رمزي “لرفع العتب”، تماما كما فعل دونالد ترامب الذي وصف بشار الأسد “بالحيوان” بعد مجزرة خان شيخون الكيماوية الذي بدوره اكتفى بالقصف الرمزي لمطار الشعيرات “لرفع العتب” في الوقت الذي كانت تحقيقات “قيصر” تبحث في تطبيق عقوبات على النظام السوري لقتله 11 ألف معتقل تحت التعذيب موثقة بالصور المريعة لأجساد المعذبين. قبل مجزرة الغوطة الكيماوية وفي 16 نيسان/أبريل 2013 قام أحد أفرع النظام الأمنية في حي التضامن بإعدام 41 شخصا تم توثيقها بشريط مصور حصل عليها الباحث في المعهد الهولندي لأبحاث الإبادة الجماعية أوغورأونغور على نسخة منه في العام 2019 وقام مع زميلته أنصار شحود بتحقيق مطول وتم اعتراف ضابط المخابرات أمجد يوسف الذي يظهر في الفيديو بقيامه بقتل هؤلاء وإحراق جثثهم وقد قامت صحيفة الغارديان بنشر التقرير الموثق وتمت مشاهدة الصور المروعة من ملايين البشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الوقائع المثبتة بأدلة دامغة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، عدا عن جرائم الحرب التي ارتكبها النظام ولا يزال خلال إحدى عشرة سنة كان آخرها مجزرة مدينة الباب الأسبوع الماضي. ومازال المجتمع الدولي يتجاهلها تماما.
نشهد هذه الآونة موجة تطبيع مع النظام السوري تقودها تركيا وروسيا، ودول عربية تسعى لإعادة نظام الأسد إلى مقعده في الجامعة العربية
إحدى عشرة سنة حول خلالها النظام سوريا إلى إحدى أفقر الدول في العام وهجر نصف سكانها، ودمر بنيتها التحتية ومعظم مبانيها، ودمر اقتصادها ( الدولار تخطى 4500 ليرة سورية)، فما هي المصالح التي تدفع الدول المطبعة لتغض الطرف عن كل هذه الجرائم وتقول: عفا الله عما سلف، وننسى كل مآسي السوريين وعذاباتهم ودمائهم ودموعهم. كيف يمكن أن نصالح الجلاد والضحية؟ بالنسبة لتركيا تحديدا هناك دافعان اثنان يجعلانها تضحي بكل مواقفها السابقة من النظام التي كانت تساند فيها المعارضة السياسية والمسلحة، وتعتبر أن هذا النظام فاقد للشرعية بسبب جرائمه بحق السوريين، رغم أن تركيا عضو في اللجنة الثلاثية التي تضم أكبر حليفين للنظام إيران وروسيا: الوجود الكردي على حدودها، أي مناطق الحكم الذاتي الكردية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وعودة اللاجئين السوريين الذين باتوا عبئا على حكومة أردوغان بعد أن بدأت المعارضة استغلال وجودهم للنيل من حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة التي ستجري بعد حوالي تسعة أشهر ويخشى الحزب خسارتها، لذا لا بد من الاستعجال في تحقيق بعض الانجازات على الأرض لقطع الطريق على المعارضة. أنقرة التي كانت تهيئ نفسها لشن عملية عسكرية كبيرة لتحرير مدينتي منبج وتل رفعت من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الذراع المسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجدت أنها غير قادرة على ذلك لرفض روسيا وإيران وأمريكا ودول أوروبية لأي عملية عسكرية من شأنها تأجيج الصراع، وتوسيع دائرة المواجهات، وتثير المعارضة التركية لاستغلالها أبشع استغلال ضد الرئيس رجب طيب أردوغان وخاصة في حال فشلها أو تعثرها. تركيا وجدت الحل عند فلاديمير بوتين في زيارة أردوغان الأخيرة له: التطبيع مع النظام السوري ولكن مقابل ماذا؟
مطالب تركيا مقابل مطالب النظام السوري
في تبادل للمطالب بين النظام السوري والحكومة التركية بترتيب من روسيا نشرت صحيفة “تركيا” المطالب التركية التي تحددت في: “تطهير سوريا من عناصر حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردية بشكل كامل. القضاء على تهديد الإرهاب على الحدود التركية. عمل النظام على استكمال عملية الدمج السياسي والعسكري مع المعارضة بطريقة صحية. اعتماد حمص ودمشق وحلب لاختبار تنفيذ خطة العودة الآمنة والكريمة للسوريين في المرحلة الأولى على أن يتم توسيع هذه المناطق لاحقا. ومراقبة تركيا عودة السوريين بشكل آمن والممارسات المطبقة على السوريين ما بعد عودتهم وإسكانهم. تحقيق مسار جنيف وكتابة دستور ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة في سوريا، والإفراج السريع عن المساجين” السياسيين وخاصة الأطفال والنساء والمرضى منهم.
مطالب النظام حددها في: تسليم إدلب وبوابة جيلفةغوزو الحدودية، ومعبر كسب الحدودي لإدارة النظام السوري بشكل كامل. أن يكون الممر التجاري بين جيلفةغوزو ودمشق إضافة إلى طريق (إم 4) الذي يربط حلب واللاذقية بدير الزور والحسكة تحت سيطرة النظام بشكل تام. تقديم تركيا دعمها لسوريا في مسألة العقوبات الأمريكية والأوروبية على البيروقراطيين ورجال الأعمال والشركات الداعمة لنظام الأسد. تنفيذ تركيا عرضها في التعاون مع النظام للقضاء على الإرهاب وإعادة النفط السورية للحكومة المركزية، وأن تواصل تركيا دعمها لسوريا في مسألة السدود والطرق السريعة والكهرباء والمؤسسات التعليمية والمياه والزراعة. تقديم تركيا الدعم لسوريا في مسائل إعادة دخولها في جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي والمنظمات والمؤسسات الدولية المشابهة”.
أنقرة شكلت وفدا من المعارضة السورية للدخول في مفاوضات مع النظام يتألف من 7 أعضاء من المعارضة المسلحة ( العميد فضل الله الحجي، العقيد ياسر عبد الرحيم، العقيد فاتح حسون، العقيد أحمد عثمان، العقيد عفيف سليمان، العقيد إبراهيم مجبور، المقدم محمد حاج علي )، و 7 أعضاء من المعارضة السياسية ( منذر سراس، هيثم رحمة، أحمد طعمة، أيمن العاسمي، بدر جاموس، هادي البحرة، نصر الحريري). ذكرت إحدى الصحف أن وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في موسكو للتباحث مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهناك معلومات أن يقوم بوتين بدعوة أردوغان والأسد لحضور قمة شنغهاي المقررة في أوزبكستان في الشهر المقبل التي يمكن لهما الالتقاء على هامش القمة.
عملية التطبيع ومطالب الجانبين لا تبدو أنها قابلة للتحقيق بهذه السهولة لمجرد نية التطبيع في علاقات الجانبين فالنظام السوري هل لديه قدرة السيطرة على مناطق الحكم الذاتي؟ أحمد خوجة عضو المجلس العام لحزب الاتحاد الديمقراطي قال: “يبدو أن روسيا سمحت لتركيا باللجوء إلى هجمات الطائرات المسيرة والمدفعية، على الرغم من تطمينات موسكو وطهران بأن أنقرة لن يُسمح لها بغزو شمال شرق سوريا برا”.. وأضاف “إن النظام السوري غير قادر على شن هجمات على مناطق الحكم الذاتي لأنها محصنة ومحمية بشكل جيد” عدا أن القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة لها كلمتها أيضا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هل ستقبل المعارضة بوجود كل الميليشيات الطائفية والقواعد الإيرانية والروسية المنتشرة في كل مكان؟ أما عن مطلب تركيا بدمج المعارضة السياسية والعسكرية وتطبيق قرار 2254، وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة، وصياغة الدستور، فهذا كان مطلب المعارضة من بداية الثورة فهل أظهر النظام أي نية صادقة في هذا المجال، وهل ستقبل المعارضة بإبقاء النظام المخابراتي في البلاد، المعارضة الشعبية من جانبها عبرت عن رأيها بمظاهرات مناهضة لأي تطبيع مع النظام. وفيما يخص اللاجئين السوريين في تركيا فقد بدأ الكثير منهم التفكير بالهجرة مرة أخرى لفقدان الثقة بالنظام ولمرارة العيش في ظل حكمه لفقدان أبسط مقومات العيش الكريم.
نقلا عن القدس العربي