العلمانية ـ كـفكر وممارسة ـ أنواع ودرجات... فالعلمانية ـ حسب رأيي ـ يمكن أن تكون:
ـ "إيجابية" عندما تكون مجرد نهج فكري لأشخاص في المجتمع، يمارسون حقهم في التفكير الحر، ويؤمنون بحق الآخرين في حرية التفكير.
ـ و"بنّاءة" عندما تتحول إلى قوانين ناظمة لحياة المجتمعات... والنسخة الأنغلوساكسونية هي الأمثل ـ حسب رأيي.
ـ و"سلبية" عندما تصبح بمثابة قيدٍ أو سجنٍ فكري، يَحُول دون تمكين معتنقها من قبول أي فكر آخر... وهذا ما اسميه "التطرف العلماني".
ـ و"هدامة" عندما تصبح سلاحاً يُشهرُه أتباعُها في وجه كل من لا يريد أن يصبح نسخة طبق الأصل عنهم... وهذا ما أسميه "الداعشية العلمانية".
من خلال متابعتي لكتابات وتصرفات العلمانيين العرب، الذين يحْلو لهم أن ينعتوا أنفسهم بـ "الليبراليين" أو "اليساريين"، تشكل لديّ انطباعٌ بأن غالبية هؤلاء يمكن أن ينطبق عليهم التعريف الثالث، لا بل الرابع وبجدارة؛ أي أنهم "متطرفون علمانيون" أو "علمانيون متطرفون".
ففي الوقت الذي يطالب هؤلاء فيه بحقهم في السعي إلى إبعاد الدين تماما عن الدولة، يرفضون رفضاً قاطعاً ونهائياً أن يقبلوا أو يعترفوا بأي حق للمتدينين في السعي إلى إدخال الدين إلى معترك الحياة السياسة. والأدهى والأمر يكمن في "العلمانية الداعشية" أو "الداعشية العلمانية" التي ظهرت ـ مؤخراَ ـ بكل وضوح، في أوساط العلمانيين الليبراليين أو اليساريين العرب، على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة، التي حصلت في تركيا في الـ 15 من شهر تموز (يوليو) سنة 2016.
فقد عبر الكثير من هذه الفئة ـ بكل صراحة وصفاقة ـ عن تأييده للانقلاب بالقوة الغاشمة على حكومة تشكلت نتيجة انتخابات حرة وشفافة، لم يشكك بنزاهتها أحد. لقد أيد علمانيونا الأشاوس الانقلاب على الشرعية لأنه ـ حسب رأيهم ـ يهدف إلى القضاء على "الإسلام السياسي". لم يخطر في بال هؤلاء المتنورين اليساريين الليبراليين أن يأخذوا بالحسبان أو يقيموا أي اعتبار لرأي الجماهير التركية؛ المعنية مباشرة بالأمر.
إن الموضوعية تقتضي أن نعترف بأن مجتمعاتنا مريضة، وبأن الأجيال المعاصرة من مجتمعاتنا لا يمكن أن يكتب لها الشفاء في المدى المنظور، لأن أتباع الإسلام السياسي في بلادننا - إقصائيون دون أدنى شك. ولأن التجارب اثبتت أن الشيوعيين والقوميين إقصائيون أيضاً، واثبتت تجارب "الربيع العربي" أن "العلمانيين" "الليبراليين" "اليساريين" العرب لا يختلفون في شيء عن الإسلاميين، ولا عن الشيوعيين، ولا عن القوميين. ومن المعلوم أنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما في أنفسهم.